التسميات

"الحوار" و"الجدال": تمايز في المفهوم والوظيفة/ إدريس أوهنا


"الحوار" و"الجدال": تمايز في المفهوم والوظيفة

أولا : الاستعمال  اللغوي لكلمة "الحوار" :

أصل المادة اللغوية التي جاءت منها كلمة "الحوار" هي : ح و ر. وجاء في "لسان العرب": "وكلمته فما رجع إلي حواراً ومحاورة وحَوِيرًا ومَحُورَةً، بضم الحاء، بوزن مشورة أي جوابا، وأحار عليه جوابه : ردّه.. والمحاورة : المجاوبة، والتحاور : التجاوب...[1].
وأورد "الفيروز أبادي" في قاموسه المحيط أن الحوار بفتح الحاء أو كسرها يعني : "مراجعة النطق، وتحاوروا : تراجعوا الكلام... والتحاور هو التجاوب..."[2].
وجاء في "جمهرة اللغة" : "وكلمت فلانا فما أحار جوابا وما سمعت له حوارا ولا حويرا، وحاورتَ فلانا محاورة وحوارا وحويرا، إذا كلمك فأجبته"[3].
ويقول الراغب في  كتابه "المفردات في غريب القرآن" :
"...والمحاورة والحوار : الـمَرادّة في الكلام".
وفي معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب : "الحوار  (Dialogue) : تبادل الحديث بين الشخصيات..."[4].
يتضح من خلال محاولتنا البسيطة هذه في تتبع كلمة "حوار" في مختلف المعاجم اللغوية بأن الكلمة لا تحتمل أكثر من مدلول واحد وهو : التجاوب والـمَرادّة في الكلام.

ثانيا : الاستعمال القرآني لكلمة "الحوار" :

لم ترد كلمة "الحوار" في القرآن الكريم إلا في ثلاث آيات[5]:
}..فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا{ (الكهف : 32).
}قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا{ (الكهف37)
}قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ{ (المجادلة1) ذهب ابن عاشور في تفسير الآية الأولى إلى القول : »وجملة "وهو يحاوره" حال من ضمير "قال"، والمحاورة : مراجعة الكلام بين متكلمين...«[6].
وفي تفسير الآية الثانية قال : "حكي كلام صاحبه بفعل القول بدون عطف للدلالة على أنه واقع موقع المحاورة والمجاوبة، كما قدمناه غير مرة"[7]
وفي تفسير آية المجادلة قال : »والتحاور تفاعل من حار، إذا أجاب فالتحاور حصول الجواب من جانبين فاقتضت مراجعة بين شخصين«[8].
وجاء في تفسير "الكشاف" للزمخشري ما يلي : »يحاوره يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع، وسألته فما أحار كلمة«[9].
أما "سيد قطب" فلم يقف عند هذه الكلمة بالتفسير[10].
يتضح من خلال استقرائنا لمصطلح "الحوار" في هذه التفاسير وبحسب سياق الآية أو الآيات التي جاء فيها أنه لم يخرج عن مدلوله اللغوي المشار إليه آنفا، سوى ما جاء في تفسير ابن كثير لكلمة "الحوار" في الآية الأولى قال : »فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره، أي يجادله ويخاصمه...«[11].
ولعلي لا أكون مخطئا إذا قلت إن إعطاء "الحوار" هذا المفهوم في هذه الآية بالذات، إنما هو استثناء دل عليه وأوجبه سياق الآية، وإلا فإنه ليس هناك أي فرق بين الحوار والجدال، وهذا ما سنتبين خلافه فيما لي.

ثالثا : الاستعمال اللغوي والقرآني لكلمة "الجدال"، وبيان الفرق بينه وبين "الحوار".

إذا كان الحوار يعني كما تمت الإشارة من قبل التجاوب والمرادة في الكلام فإن الجدال كما جاء في "لسان العرب" يعني : "اللدد في الخصومة.. ويقال جادلتُ الرجل فجدلته جدلا أي غلبته.. وجادله : أي خاصمه مجادلة وجدالا.. والاسم الجدل وهو شدة الخصومة..والمجادلة المناظرة والمخاصمة"[12].
وجاء في "جمهرة اللغة" :
"وجادلت الرجل مجادلة وجدالا، إذا خاصمته، والاسم الجدل"[13].
أما من حيث الاستعمال القرآني للفظ "الجدال"، فإن أوضح مثال يجدر أن نقف عنده لنتبين الفرق بينه وبين الحوار، هو قوله تعالى : }قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ{ (المجادلة1).
فالآية تضمنت اللفظين معا، ومن تم تجدنا في هذه الآية "أمام حقيقة وصفت أول الأمر بأنها جدال، ووصفت في الآخر بأنها حوار، وذلك هو الأمر الذي لا غرابة فيه، لقد جاءت المرأة تشكو زوجها، وجاءت منفعلة من الظهار الذي أقسم به عليها..لكن هذا الموقف قد تغير وهدأت نفسها قليلا بالحديث مع النبي صلى الله عليه وسلم، واطمأنت إلى قوله، فتحول الجدل إلى حوار"[14].
ومما يؤكد استقامة هذا الفهم وهذا التمييز بين الحوار والجدال، هو كون الجدال في كثير من آي القرآن الكريم قد ورد مقيدا بضوابط وآداب :
يقول الله تعالى : }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{. (النحل25).
ويقول سبحانه وتعالى : }وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ{ (الزخرف57-58).
وانظر في هذه الآية الأخيرة كيف أن الله تعالى بجدالهم وصفهم بأنهم قوم خصمون، مما يعضد ويؤكد المعنى اللغوي للجدال ويجعلنا نستبين الفرق الواضح بينه وبين الحوار.
هذا وإذا كان الإمام القرطبي رحمه الله قد ذهب في تفسير الجامع إلى القول بأن الجدال إذا كان من أجل إظهار الحق فهو محمود كما في تفسيره لقوله تعالى من سورة "الأنعام" :
}وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ{ (الأنعام121).
قال : "والمجادلة : دفع القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي. وقيل : هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة ويقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل : هو مأخوذ من الجدْل، وهو شدة الفتل، فكأنه كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة  الباطل"[15].
وفي تفسير قوله تعالى من سورة "هود" :
}قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ{ (هود32).
قال : "قد جادلتنا فأكثرت جدالنا" أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة، مشتق من الجدل وهو شدة الفتل، ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير. وقرأ ابن عباس (فأكثرت جَدَلَنا) ذكره النحاس، والجدل في الدين محمود، ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم"[16].
فإن ما قرره إمامنا هنا –رحمه الله تعالى- على وجاهته لا ينفي أفضلية الحوار الذي يتم في جو هادئ بعيدا عن أجواء الشدة والخصومة، ويكون الهدف منه هو الوصول إلى الحق ولا شيء غير الحق. بخلاف الجدال الذي يكون في حال التنازع الفكري حول قضية من القضايا، وفي أجوائه الساخنة غالبا ما يقصد المجادل تحقيق الانتصار والغلبة على الطرف الآخر، وقد يمتطي من أجل بلوغ ذلك صهوة الباطل بقصد أو بغير قصد، خصوصا أن الإنسان العادي ليست له العصمة التي للأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
ولذلك وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الجدل في غير ما حديث. من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"[17]. وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"[18].

خـلاصـــــــــــــــة :

نخلص إلى أن الحوار عادة ما يكون في جو هادئ بعيدا عن أجواء العنف والإرهاب الفكريين، ويكون الهدف منه هو الوصول إلى الحق وإلى ما فيه مصلحة شرعية، بينما الجدل -وكما جاء في تعريفه اللغوي- يكون في حال التنازع الفكري حول قضية من القضايا أو مسألة من المسائل، وغالبا ما يقصد به المجادل تحقيق الانتصار والغلبة على الطرف الآخر.




[1] لسان العرب المحيط، ابن منظور، باب الحاء : 1/751، دار لسان العرب، بيروت.
[2] القاموس المحيط : الفيروزأبادي : 2/15، دار الفكر، بيروت.
[3] جمهرة اللغة : أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد، حققه وقدم له : د. رمزي منير بعلبكي : 1/525، دار العلم للملايين، بيروت.
[4] معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب : مجهدي وهبة وكامل المهندس 3/154، مكتبة لبنان.
[5] المعجم المفهرس لألفاظ القرآن : محمد فؤاد عبد الباقي، ص220، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[6] التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور : 15/319-320.
[7] نفسه :  15/321
[8] نفسه 28/09.
[9] تفسير الكشاف للزمخشري : 2/484.
[10] انظر الظلال : 4/2270-2271، 6/3505-3506.
[11] تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 3/136.
[12] لسان العرب لابن منظور، باب الجيم : 1/420.
[13] جمهرة اللغة : أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، حققه وقدم له : د. رمزي منير بعلبكي : 1/525، دار العلم للملايين، بيروت.
[14] مفاهيم قرآنية : د. محمد أحمد خلف الله، ص : 159.
[15] الجامع لأحكام القرآن 7/78-79.
[16] "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي 9/31.
[17] أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن وابن ماجة  في المقدمة من حديث أبي أمامة، وقال الترمذي : حسن صحيح.
[18] سنن أبي داود، كتاب الأدب.

شارك:

0 comments:

إرسال تعليق

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة