أسلوب الحوار في القرآن الكريم: موضوعاته ومناهجه وخصائصه
أسلوب الحوار في القرآن الكريم: موضوعاته ومناهجه وخصائصه
تأليف: الدكتور إدريس أوهنا
اضغط على الصورة لقراءة الكتاب PDF
صدر حديثا: المقاصد التعبدية والحظوظ النفسية
صدر حديثا: المقاصد التعبدية والحظوظ النفسية
تأليف: الدكتور إدريس أوهنا
اضغط على الصورة لقراءة الكتاب PDF
صدر حديثا: الكليات الشرعية وجزئيات النصوص والوقائع -بحث في مسالك الاستدلال والإعمال-
الكليات الشرعية وجزئيات النصوص والوقائع -بحث في مسالك الاستدلال والإعمال-
تأليف: الدكتور إدريس أوهنا
اضغط على الصورة لقراءة الكتاب PDF
الأصلي والتبعي في الاجتهاد الأصولي من خلال الموافقات للإمام الشاطبي
الأصلي والتبعي في الاجتهاد الأصولي من خلال الموافقات للإمام الشاطبي
تأليف: الدكتور إدريس أوهنا
اضغط على الصورة لقراءة الكتاب PDF
التربية ومكونات الإنسان/ إدريس أوهنا
|
|
|
التربية ومكونات الإنسان
تقديم
:
يقول الله عز وجل " }وكذلك
جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا { .(البقرة 142)، ويقول: }كنتم
خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله{ (آل عمران110).
الآيتان تقرران حقيقية مفادها أن موقع الأمة الإسلامية ضمن باقي الأمم الأخرى
هو موقع شهود وخيرية. ومن أجل الارتقاء إلى هذه المكانة (الخيرية) والوفاء
بمقتضى هذا الواجب (الشهود) لابد من تربية شاملة ومتوازنة لأفراد هذه الأمة
الذين يشكلون مجموعها، مصداقا لقوله تعالى : }إن
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{ (الرعد12).
فما تعريف التربية؟
وما حقيقة الإنسان؟
وكيف يجب أن تعمل التربية على الارتقاء
بمكونات الإنسان؟
أولا : تعريف التربية :
جاء في "لسان العرب" لابن
منظور : "ورباه تربية، على تحويل التضعيف، وترباه على تحويل التضعيف أيضا:
أحسن القيام عليه ووليه حتى يفارق الطفولية كان ابنه أو لم يكن"[1]
وجاء في "الصحاح" للجوهري :
"تربية وتربيته: أي غدوته، هذا لكل ما ينمي، كالولد والزرع ونحوه"[2]
أما في اصطلاح علماء التربية فنجد مجموعة من التعريفات :
فقد ذهب ابن مسكويه إلى أن التربية هي
التي ترمي إلى السعادة بالترقي إلى الحق والخير والجمال[3]
ويرى الإمام الغزالي أن الهدف الأسمى
للتربية : "هو التقرب لله تعالى والاستعداد للحياة الأخروية. ولذلك دعا إلى
تربية الصبيان تربية دينية وخلقية قوامها التقشف والزهد في الملذات"[4].
ويرى "ابن سينا" في تعريفه
للتربية أنها : "وسيلة إعداد الناشئ للدين والدنيا في آن واحد وتكوينه عقليا
وخلقيا، وجعله قادرا على اكتساب صناعة تناسب ميوله وطبيعته وتمكنه من كسب عيشه[5]
أما ابن خلدون فيؤكد في آرائه التربوية
على ضرورة العناية بتنمية عقل المتعلم ومراعاة استعداداته العقلية[6]،
ووفاء لمذهبه الاجتماعي فهو يؤكد على تأثير البيئة الاجتماعية في العملية التربوية[7]
والى جانب هؤلاء نجد آراء أخرى في
التربية للقابسي وابن سحنون وإخوان الصفا وغيرهم من العلماء والمفكرين المسلمين.
أما الفيلسوف اليوناني المعروف أفلاطون
(427 ق.م-346 ق.م) فقال في تعريف التربية
: "التربية إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من
الكمال"[8]
وقال الفيلسوف الألماني "أوجيست
كونت" (1724-1804م) : الغرض من التربية أن نصل بالإنسان إلى الكمال الممكن[9].
وقال المنظر التربوي السويسري
سيتالوتزي(1746-1827م): التربية تنمية كل قوى الطفل تنمية كاملة متلائمة[10].
وقال الفيلسوف الإنجليزي
"جيمزمل" : (1773-1836م): التربية إعداد الفرد ليسعد نفسه أولا، وغيره
ثانيا[11].
وذهب "جان بياجي" إلى القول
بأن "التربية هي تكييف الفرد مع البيئة الاجتماعية المحيطة به"[12].
وقد أورد بعض هذه التعريفات "محمد
عطية الأبراشي في كتابه "روح التربية والتعليم" ثم أبدى رأيه في الموضوع
قائلا : "التربية هي إعداد المرء ليحيى حياة كاملة، ويعيش سعيدا، محبا لوطنه،
قويا في جسمه، كاملا في خلقه، منظما في تفكيره، رقيقا في شعوره، ماهرا في عمله،
متعاونا مع غيره، يحسن التعبير بقلمه ولسانه، ويجيد العمل بيده"[13].
كما أورد بعضها الآخر الدكتور "عبد
الحميد الصيد الزنتاني" في كتابه "أسس التربية الإسلامية في السنة
النبوية" ثم قال : "ويمكننا أن نبسط تعريف التربية بقولنا : إنها عملية
تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها روحيا وعقليا ووجدانيا وخلقيا
واجتماعيا وجسميا والقادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية والطبيعية التي تعيش
فيها"[14]
وبالنظر
إلى مجموع تلك التعريفات يمكن القول بأن التربية عملية شاملة متوازنة تخاطب في الإنسان
جميع أبعاده ومكوناته العقلية والروحية والجسدية بهدف تنميتها والارتقاء بها حتى
يكون فردا صالحا في نفسه، مصلحا في أسرته ومجتمعه وأمته والكون بأسره.
وهي
عملية تستمر باستمرار حياة الإنسان بحيث لا يمكن الفراغ منها أو الاستغناء عنها.
ثانيا
: التربية ومكونات الإنسان :
إذا
كنا في العنوان السابق ومن خلال التعريفات المذكورة قد توخينا تقريب معنى التربية
من ذهن القارئ، فإننا تحت هذا العنوان الجديد : (التربية ومكونات الإنسان) لا
يسعنا إلا أن نوضح أولا أن العلة من هذا الربط بين التربية والإنسان على وجه
الخصوص تتأسس على اعتبار الإنسان محور العملية التربوية ولبها والركن الأساس فيها.
يقول الدكتور عمر التومي الشيباني : "وبالنسبة للفلسفة التربوية بالذات التي
تعتبر إحدى الفلسفات التطبيقية، فإن الوجود الإنساني أو الإنسان يحتل الصدارة في
مباحث هذه الفلسفة، وذلك على أساس أن الإنسان هو لب العملية التربوية ومركز
نشاطها، والركن الأساسي الذي لا تتم العملية التربوية ولا يتحقق مدلولها
بدونه"[15]
ثم
إن هذا الإنسان الذي يعتبر كائنا حيا ناطقا لا يمكن أن نفسره أو نحدد مفهومه على
أساس البعد أو المكون الواحد، بل لابد من النظر إلى جميع مكوناته العقلية والروحية
والجسدية لكي يتضح لنا مفهومه وتنجلي أمامنا حقيقته، يقول د.عمر التومي الشيباني :
"فإن
التصور الإسلامي للإنسان لا يتفق في عمومه مع التفسير القائم على تأكيد البعد
الواحد للطبيعة البشرية، سواء أكان هذا البعد هو الجسم كما يقول الماديون، أو كان
هذا البعد هو العقل كما يقول العقليون، أو كان هذا البعد هو الروح كما يقول
الروحيون. بل التفسير الذي يرضاه الإسلام ويتمشى مع نصوصه وروحه هو تفسير الإنسان
على أنه مزدوج الطبيعة، يتكون من جسد وروح، وبامتزاج هذين العنصرين تتحقق الحياة.
والروح هي فكرة مجردة ومطلقة غير محددة. ولكن هذه الفكرة المجردة هي سر الحياة،
وإذا ما تلبست بالجسد الذي هو مادة محدودة أصبح المزيج منهما إنسانا وعن الروح
ينبثق العقل وجميع الصفات العقلية والوجدانية"[16].
بناء
عليه اخترنا الحديث عن وظيفة التربية بالنظر إلى
مكونات الإنسان الثلاث : العقل، والقلب أو الروح، والجسم وجوارحه :
أ.
العقل
:
وأستهل
الحديث عن هذا المكون بتقديم مجموعة من التعريفات له :
*العقل
قوة إدراك يستطيع بها الإنسان الوصول إلى معرفة المسائل العقلية المجردة التي تعجز
عن إدراكها الحواس.
*العقل
مصدر المعرفة.
*العقل
أداة النشاط الذهني.
*العقل
قوة هادية وموجهة للإنسان في مختلف مناحي الحياة[17].
*العقل
ذلك النور الذي يميز به الإنسان الرشد من الغي، والخير من الشر، والممكن من
المستحيل، والحق من الباطل. إن ذلك النور هو العقل : ويعرفه "فيروز
أبادي" في "القاموس" : إنه نور روحاني تدرك به النفس العلوم. وجاء
في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "إن العقل عقال من الجهل، والنفس مثل
أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت"[18].
وفي
بيان أهمية العقل يقول د. الشيباني :
"لا
يمكن للحياة البشرية أن تستقيم دون سلطان العقل وتوجيهه بجانب سلطان الدين
وتوجيهه، والإنسان الذي ليس له عقل راشد يهديه ويوجهه ليس مخاطبا بالدين أصلا، لا
أصولا ولا فروعا، ومن أولى شروط العقيدة السليمة في الإسلام أن تقوم في سائر
مسائلها الكلية والجزئية على أساس من اليقين العقلي الصحيح. والعقل هو أساس
التكليف في الإسلام"[19].
إذا
كان العقل بهذه الأهمية فمن الوظائف الأساسية للتربية أن تشكله على أساس من العلم
وتحرره بالمقابل من الجهل.
ولا
بد هاهنا من تحديد مفهوم العلم في التصور الإسلامي بشكل دقيق حتى لا يختلط علينا
بمفهومه في التصور الغربي فنقع في اللبس والخطأ.
فإذا
كان مفهوم العلم في التصور الغربي مطابقا للمعرفة بإطلاق، فإن لهذا المفهوم في
التصور الإسلامي محددات رئيسية لا يستقيم، ولا تتحقق آثاره الطيبة في واقع
المسلمين بدونها، وهذه المحددات يمكن استخلاصها عن طريق الاستقصاء الشامل
لاستعمالات لفظ "العلم" في القرآن الكريم، وهي باختصار شديد :
1.
استغراق
المفهوم للعلوم الشرعية/الدينية، والعلوم المادية/الدنيوية :
قال تعالى : }إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنـزلَ
اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{ (البقرة 164).
إذا تأملنا هذا النص وجدناه يشير إلى
عدد من العلوم المادية الدنيوية : علم الفلك – علم الجيولوجيا – علم البيولوجيا –
علم الأرصاد الجوية.. مما يؤكد أن مفهوم العلم في الإسلام لا يقتصر على العلوم
الدينية الشرعية كما يعتقد البعض.
وفي علم الطب – كمثال على اهتمام
الإسلام بالعلوم المادية اهتمامه بالعلوم الشرعية – سئل الرسول صلى الله عليه وسلم
عن الأدوية التي تتخذ للعلاج : هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال عليه الصلاة والسلام
: "هي من قدر الله"[20].
وجاء أعرابي فقال : "يا رسول الله
أنتداوى؟ قال : نعم، فإن الله لم ينـزل داء إلا أنـزل له شفاء. علمه من علمه وجهله
من جهله"[21].
كما أن مفهوم العلم في الإسلام لا يقصي
تعلم اللغات الأجنبية أيضا "فقد كان عنده صلى الله عليه وسلم من أصحابه من
يعرف الفارسية والرومية والحبشية ويكفيه هم الترجمة منها وإليها ولكن لم يكن عنده
من يعرف اللغة السريانية التي يكتب بها يهود، فأمر بذلك كاتب وحيه الأنصاري
النابغة زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ليتقنها قراءة وكتابة ويستغني بها عن الوسطاء
من اليهود في ذلك...
ومن
هنا حرص كثير من المسلمين على معرفة اللغات فترجموا منها وإليها وقال في ذلك
الشاعر :
بقدر
لغات المرء يكثر نفعه
فأقبل على درس اللغات وحفظها |
|
فتلك له عند الملمات أعوان
فكل لسان في الحقيقة إنسان"[22] |
وإذا
استحضرنا بأن عصرنا هذا عصر اللغات والاتصال بامتياز فإن العملية التربوية لا غنى
لها عن التوجيه إلى تعلم اللغات كجزء من العلم النافع والضروري الذي يحث عليها
الإسلام.
2.
استغراق المفهوم للعلم بالآخرة إلى جانب العلم
بالحياة الدنيا :
قال تعالى : }...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ.يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ
الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ{ (الروم 6-7).
قال د. يوسف القرضاوي –أطال الله عمره-
معلقا : "فانظر كيف نفى الله عنهم العلم بقوله: (لا يعلمون) ثم قال: (يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا) ولا يناقض هذا الإثبات ذلك النفي، لأن هذا النوع وهذا
المستوى من العلم – العلم بظاهر من الدنيا مع الغفلة عن المصير- هو علم أشبه
بالجهل. فلا عجب أن يوصف أصحابه بأنهم لا يعلمون"[23]
وقال تعالى أيضا : ...}فَأَعْرِضْ
عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا.ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ{ (انظر النجم28-29).
فالآية تفيد أن علم هؤلاء ناقص وقاصر ما
دام مقتصرا على الحياة الدنيا دون العلم بأحوال الآخرة. ومن ثم فعلى العملية
التربوية أن تضع في حسبانها دائما هذا البعد الأخروي في بناء الشخصية الإنسانية
حتى يكون البناء متوازنا ومتكاملا.
3.
اقتصار
المفهوم على العلوم النافعة دون العلوم الضارة :
وهذا أمر طبيعي في رسالة كرسالة الإسلام
التي جاءت لرعاية المصالح ودرء المفاسد رحمة بالناس جميعا. قال تعالى : }وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين{ (الأنبياء106).
ومن ثم فإن العلم المعتبر في الإسلام هو
العلم الذي يعود على البشرية بالنفع لا العلم الذي يتسبب في خرابها ودمارها.
4.
اشتراط
المفهوم للدليل والبرهان في بناء المعرفة :
"والدليل هو :
· البرهان النظري في العقليات : }قُلْ
هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ{ (النمل64).
· المشاهدة أو التجربة في الحسيات : }وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ{ (الزخرف19).
· صحة الرواية وتوثيقها في النقليات : }اِئْتُونِي
بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{ (الأحقاف4)"[24].
وقد دم الله تعالى الذين يجادلون بغير
علم ولا دليل في غير ما آية في القرآن الكريم. قال تعالى : }إِنَّ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ (غافر56).
وقال أيضا:} بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ{ (يونس36).
5.
استغراق
المفهوم للخشية والإيمان :
قال تعالى : }...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{(فاطر28).
وانظر كيف ارتبطت خشية الله تعالى في
هذه الآية بالعلم ارتباطا لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه كما قال تعالى أيضا: }وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ{ (الحج54).
فهذه المعاني الثلاثة مترتب بعضها على
بعض. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا تعقيب، ليعلموا فيؤمنوا. والإيمان
تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر
الإيمان الإخبات والتواضع لله رب العالمين"[25].
ومن ثم فإن العلم الصحيح في الإسلام هو
الذي ينطوي على معرفة الله تعالى وخشيته والإيمان به، وإلا فهو أقرب إلى الجهل منه
إلى العلم. وكيف –بالله عليك- يعد عالما من جهل ربه، وجهل نفسه باعتباره عبدا في
هذا الكون لا أقل ولا أكثر، والمعبود هو الله تعالى وحده؟!
6.
استغراق المفهوم للعمل والتطبيق :
يقول الله تعالى : }مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَارًا{ (الجمعة5).
يقول الأستاذ محمد علي الصابوني في
تفسير هذه الآية :
"أي مثل اليهود الذين أعطوا
التوراة، وكلفوا العمل بما فيها (ثم لم يحملوها) أي ثم لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا
بهديها ونورها (كمثل الحمار يحمل أسفارا) أي مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل الكتب
النافعة الضخمة، ولا يناله منها إلا التعب والعناء. قال القرطبي : شبههم تعالى
–والتوراة في أيديهم وهو لا يعملون بها- بالحمار يحمل كتبا، وليس له إلا ثقل الحمل
من غير فائدة، فهو يتعب في حملها ولا ينتفع بما فيها، وقال في حاشية البيضاوي : ذم
تعالى اليهود بأنهم قراء التوراة، عالمون بما فيها، وفيها آيات دالة على صحة نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان به، ولكنهم لم ينتفعوا بها مما ينجيهم من
شقاوة الدارين، وشبههم بالحمار الذي يحمل أسفار العلم والحكمة ولا ينتفع بها، ووجه
التشبيه حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء في الانتفاع، مع الكد والتعب"[26].
يظهر من خلال تفسير هذه الآية أن العلم
بغير عمل هو عين الجهل في ميزان الإسلام لذلك شبه صاحبه بالحمار الذي يحمل الكتب
النفيسة العظمية دون أن ينتفع منها بشيء.
ولذلك قال الإمام الشاطبي بأن علماء
السوء الذين لا يعملون بما يعلمون ليسوا من الراسخين في العلم وإنما هم رواة لا
أقل ولا أكثر.[27]
ويقول الله تعالى أيضا : }أَفَمَنْ
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى{ (الرعد19)، ثم وصف أهل العلم بقوله }الَّذِينَ
يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ{ (الرعد20) إلى آخر الأوصاف، وحاصلها يرجع أن العلماء هم العاملون.[28]
ويقول تعالى كذلك: }أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ{؟ (الزمر9). ثم قال: }قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ{؟ (الزمر9) الآية! فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم،
لا من أجل غيره.[29]
وعن علي -كرم الله وجهه- : "يا
حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله".[30]
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه-:
"ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية الله".[31]
وقال الإمام الشاطبي –رحمه الله- :
"كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه".[32]
وقال : "روح العلم هو العمل، وإلا
فالعلم عارية وغير منتفع به. فقد قال الله تعالى }إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ{ (فاطر28). وقال }وإنه لذو علم لما علمناه{ (يوسف68). قال قتادة : يعني لذو عمل بما علمناه".[33]
وقال : "العلم الذي هو العلم
المعتبر شرعا –أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على
العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه،
الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها".[34]
ولذلك لم يثبت في الشرع فضل العلم مطلقا
إلا من حيث التوسل به إلى العمل[35]
وهذا البعد من الأهمية بمكان بحيث يجب
على العملية التربوية أن تركز عليه وتوليه كامل الاهتمام وهي تعمل على الارتقاء
بالمتربي، خصوصا أن غياب البعد العملي من حياة المسلمين أحد أبرز عوامل تخلفهم
وجمودهم كما يؤكد ذلك المفكر الجزائري المعروف "مالك بن نبي" في عدد من
كتبه كـ"حديث في البناء" و"مشكلة الثقافة" و"شروط
النهضة"، يقول –رحمه الله- : "إن الذي ينقص المسلم ليس منطق
الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل..."[36]
فعلى التربية إذا التي تتغيى تشكيل
العقل على أساس العلم أن تستحضر كل تلك المحددات حتى يكون البناء التربوي للشخصية
المسلمة بناء محكما ومتكاملا وإيجابيا وفعالا.
كما على العملية التربوية وهي تسعى
للارتقاء بعقل المتربي أن تعمل على إرساء دعائم المنهج العلمي في تفكيره، وهذه
الدعائم كما حددها العلامة "يوسف القرضاوي" تتمثل في الآتي :
ü
ألا
تقبل دعوى بغير دليل مهما يكن قائلها.
ü
رفض
الظن في كل موضع يطلب فيه اليقين الجازم.
ü
رفض
العواطف والأهواء والاعتبارات الشخصية.
ü
الثورة
على الجمود والتقليد والتبعية الفكرية للآخرين.
ü
النظر
والتفكير والتأمل في الكون والإنسان وفي تاريخ الأمم السابقة.
ü
الثورة
على التفكير الخرافي.[37]
وقبل هذا وذاك على
التربية أن تطلق عقال العقل المسلم كي يفكر ويتأمل ويبدع كما أراد منه خالقه
سبحانه وتعالى يقول عز وجل : }إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ{ (الأنفال22)، ويقول }فَبَشِّرْ
عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{ (الزمر17-18)، ولا غرو أن نجد في القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى
ضرورة استخدام العقل ونبذ التقليد : "أفلا يتفكرون" "أفلا
يعقلون" "أفلا تتفكرون" "أفلا ينظرون" "أوَ لم
ينظروا " "أوَ لم يتفكروا" "لقوم يعقلون" "لقوم
يعلمون" "لقوم يتفكرون"... وفي نبذ التقليد صراحة يقول تعالى : }وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ{ (البقرة170)، ونصوص أخرى كثيرة لا يتسع المقام لإيرادها.
إن تعطيل العقل
والسكوت على تعطيله -حتى في برامجنا التربوية التعليمية- بل تكريس هذا التعطيل في
كثير من الأحيان لجرم عظيم يجب التصدي له ومعالجته خصوصا إذا استحضرنا ما لتعطيل
العقل من عواقب وخيمة وخطيرة أذكر من جملتها :
-
توقف
نشاط الحياة.
-
فقدان
حاسة التمييز بين الخير والشر والخطأ والصواب والحق والباطل والنور والظلام.
-
السقوط
في التقليد الأعمى للآخرين.
-
التخلف
على المستوى العلمي والمعرفي.
-
الجهل
بالخالق سبحانه وتعالى وبالأمانة التي حملها الإنسان دون سائر المخلوقات الأخرى.
-
ارتكاس
الإنسان إلى حمأة الحيوانية والبهيمية.
وعموما على التربية
أن تدعم كل ما يعود على العقل بالبناء والتعضيد والتقويم من تفكر وتعلم وقراءة[38]
وكتابة ومذاكرة... وتحارب كل ما يعود عليه بالهدم والتخريب كالعزوف عن القراءة
والتفكير، والوقوع في التقليد، واعتماد الظن والهوى، والإقدام على تناول المخدرات
التي تشل قدرة العقل على التفكير والإبداع، وإهدار الأوقات في السفاسف والتوافه
وما إلى ذلك مما يعطل هذا الجهاز البديع ويخربه.
ب.
الروح
أو النفس أو القلب :
يقول "محمد تقي المدرسي" في
تعريف هذه الكلمات الثلاث :
الروح :
هي النفس وهي التي تنطوي على نور الحياة والعقل والإرادة.
والنفس :
هي كلمة تعكس لدى الإسلام مفهوم الروح تماما، ويراد بها ما يساوي كلمة الذات والقلب
أيضا، إلا أن الأوسع مفهوما هو الروح ثم النفس.
والقلب :
يوحي غالبا إلى مركز العواطف أكثر من إيحائه بمبعث نور العقل والإرادة.[39]
والملاحظ من خلال هذه التعريفات أن هناك
تقاربا في المفهوم بين الروح والنفس والقلب، ولذلك فإننا نستعملها في هذا المبحث
بنفس المعنى وإن كان بينها نوع اختلاف، وقصدنا: المحتوى الداخلي للإنسان بما هو
وعاء للشعور والعاطفة والوجدان والعزيمة والإرادة، أو تلك القوة المعنوية في
الكائن البشري التي ينبغي أن تتوجه إليها العملية التربوية بالتزكية والصقل
والتهذيب والتفجير الموزون مصداقا لقوله تعالى : }وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{ (الشمس7-10).
وغاية هذه التزكية السمو بشعور الإنسان
وبروحه وشدهما إلى الأعلى حتى لا يقع الإنسان فريسة الأهواء والنـزوات التي تنـزل
به إلى حضيض الميولات المنخفضة والرغبات المنحطة. والتزكية للنفس بمنزلة العلم
والذكاء للعقل، خاصة إذا علمنا أن القلوب تعمى كما قال صلى الله عليه وسلم :
"شر العمى عمى القلب"، ولا شك أن عماها يرجع إلى فقدانها التفاعل
الإيجابي مع المبدأ مما يجعلها تبادر إلى المخالفة والمعصية فتعمى. قال
"الحسن البصري" –رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى : }كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{ (المطففين14)
–قال- : "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب".
يقول الدكتور الشيباني مبينا وظيفة
التربية في صقل هذا المكون وتهذيبه والارتقاء به :
"في مجال النمو النفسي والانفعالي
والعاطفي والوجداني فإن التربية الصالحة في مختلف الأوساط التي يتفاعل معها
الإنسان في حياته تستطيع أن تساهم مساهمة فعالة في مساعدة الإنسان على تهذيب
انفعالاته وتوجيهها الوجهة المرغوبة التي يرضى عنها ربه وتصبح معها طاقات ودوافع
للخير والعمل البناء المثمر الذي يحقق مصالحه ومصالح المجتمع الذي يعيش فيه وفي
مساعدته على تحقيق نضجه الانفعالي والارتقاء بنفسه وتهذيبها وفي تنمية إرادته
القوية والخيرة الدافعة للعمل والحاملة عليه وفي تنمية ما تحتاجه الإرادة من قدرة
على العمل. حيث إن العمل مرهون إنجازه بوجود الإرادة والقدرة معا، وفي إيقاظ
وتنمية العواطف الإنسانية الصادقة لديه، كما تستطيع التربية الصالحة أن تساعد
الإنسان على إشباع كثير من حاجاته النفسية، وأن توفر له الفرص والمناشط التي تمكنه
من التعبير عن مشاعره ودوافعه وعن طاقاته الزائدة بالطرق المقبولة، ومن بناء عادات
ضبط النفس وكظم الغيظ والصبر والثبات في المواقف الحرجة، ومن تحرير نفسه من الخوف
والقلق والوسواس والأوهام النفسية التي لا أساس لها من الصحة، ومن التردد والوهن
والاستسلام أمام الشدائد والتحديات، ومن تحرير نفسه من أمراض الحسد والغيرة والحقد
والطمع وضعف اليقين والشك وما إلى ذلك من أمراض النفس والقلب".[40]
ولا شك أنه مما يعتبر شرطا في تزكية
النفس وصفائها : الرياضة والمجاهدة الروحية عن طريق التقرب إلى الله سبحانه
وتعالى بمختلف النوافل والعبادات من قيام وصيام وذكر وتلاوة للقرآن وخلوة وتفكر
وما إلى ذلك، مع مقاومة نزوات النفس وأهوائها حتى يصل الإنسان إلى درجة
تجعله يرى بنور الله، ويفكر بنور الله، ويتحرك بنور الله، مستمسكا بالله، متوجها
إلى الله، مبرأ من الحول والقوة إلا بالله. قال عليه الصلاة والسلام
"اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّه".[41] وفي
الحديث القدسي : "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ
وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ
عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى
أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ
الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي
يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ
وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ
الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".[42]
وعن حبر الأمة عبد
الله بن عباس قال : "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في
الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في
القلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".[43]
إن الإنسان لا يستطيع أن يقوى على تحمل
مسؤولياته المتنوعة في هذه الحياة : نحو خالقه، ونحو نفسه، ونحو الناس والمجتمع،
ونحو الحيوانات والنباتات أيضا، إلا إذا تسلح بسلاح الإيمان –تلك القوة الدافعة
والمحركة التي لا تقهر- ونقى قلبه من باطن الإثم الذي يشل إرادة الإنسان وقدرته.
وهو ما ينبغي أن تأخذه العملية التربوية بعين الاعتبار.
ج.
الجسم
وجوارحه :
الإنسان كائن متعدد الأبعاد كما بينا من
قبل، ومن هذه الأبعاد : البعد المادي في الإنسان الذي يجب على العملية التربوية أن
تهتم به اهتمامها بالأبعاد الأخرى سواء بسواء، بهدف تقوية الإنسان وتأهيله لأداء
واجباته في هذه الحياة من عبادة وعمل وإنتاج وغيرها.
ويمكن تحديد وظائف التربية في بناء هذا
المكون والارتقاء به فيما يلي :
1.
تلبية
احتياجات الجسم عن طريق التغذية والرياضة والنظافة والعمل والراحة...
قال تعالى : }يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ{ (البقرة171)، وقال صلى الله عليه وسلم : "كُلُوا وَاشْرَبُوا
وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ".[44] وقال
صلى الله عليه وسلم :" يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ قَالَ دَوَاءً
إِلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ قَالَ الْهَرَمُ".[45]
إِلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ قَالَ الْهَرَمُ".[45]
2.
ترشيد
وظائف الجوارح ومراقبتها ، لذلك فالتربية تهتم
بالعين وما ترى، وبالأذن وما تسمع، وباللسان وما ينطق به، وباليد وما تستعمل فيه،
وبالرجل وأين تطأ، وبالفرج والبطن كذلك. ومعلوم أن ما يصدر عن هذه الجوارح مجتمعة
هو الذي يشكل ما يعرف بالسلوك، الذي لا يعدو أن يكون اتجاها راسخا في أعماق النفس
تصدر عنه الأفعال أو التعبيرات الخارجية للجوارح، أو هو ثمرة تفاعل الوجدان
مع الفكر مما يولد الإرادة التي تدفع بدورها إلى عمل الجوارح. ولذلك لما رأى رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، قال : "لو خشع قلب هذا
لخشعت جوارحه".
فغاية العملية التربوية إذا على مستوى
هذا البعد تكمن في بناء جسم الإنسان نظافة وتغذية ورياضة... والمحافظة عليه مما قد
يخربه كالمخدرات وغيرها، وتقويم السلوك الإنساني بأن تدفع به في اتجاه موافقة
إرادة الخالق التشريعية من خلق الإنسان في هذا الوجود سواء في إطار علاقته بخالقه
بما هي علاقة عبادة واستخلاف، أو في إطار علاقته بنفسه بما هي علاقة تزكية وتطهير،
أو في إطار علاقته بأخيه الإنسان بما هي علاقة تعارف وعدل وإحسان، أو في إطار
علاقته بالكون بما هي علاقة تعمير وتسخير، أو في إطار علاقته بالحياة الدنيا بما
هي علاقة اختبار وتكليف، أو في إطار علاقته بالآخرة بما هي علاقة حساب وجزاء.
ثم إن العملية التربوية بذلك تتغيى
الارتقاء بالسلوك الإنساني حتى يرقى إلى مستوى الأخلاق الرفيعة التي دعا إليها
الإسلام، والتي نجدها مؤصلة في القرآن الكريم ومجسدة في سيرة الرسول صلى الله عليه
وسلم. يقول الدكتور عمر التومي الشيباني :
"يعتبر الخلق الكريم الضمان القوي
-بعد الإيمان- لكل من الفرد والمجتمع ضد عوامل الانحراف والفساد، فالعلم وحده لا
ينفع دون عاصم الخلق، والدساتير والقوانين لا تصلح دون وازع الضمير. فالعنصر
الخلقي أصيل في مبادئ وتعاليم الإسلام بل إن بعض الأحاديث النبوية الصحيحة تؤكد أن
البعثة المحمدية كانت أساسا لإتمام مكارم الأخلاق. يقول صلى الله عليه وسلم :
(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وفي
السنة النبوية المطهرة كثير من الأحاديث النبوية التي ترفع من قيمة الأخلاق وتؤكد
فائدتها في الدنيا والآخرة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (خيركم إسلاما
أحاسنكم أخلاقا إذا فقهوا)، وقوله : (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا)، وقوله:
(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن)، وقوله صلى الله عليه
وسلم في معرض الإجابة عمن سأله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة : (تقوى الله وحسن
الخلق). والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالدعوة إلى الأخلاق والإشادة بفضلها
بل كان يطبق ما يدعو إليه وقد بلغ الخلق في شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم ذروة
الكمال وما خالف صلى الله عليه وسلم بين سلوكه وبين ما يدعو إليه. بل كان في قمة
الالتزام الخلقي، وحسبه شهادة القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى : }وإنك
لعلى خلق عظيم{ (القلم4)".[46]
من كل ما تقدم يتأكد لنا أن الإسلام
يعترف بالبعد الجسمي أو المادي في الإنسان كما يعترف بحق هذا البعد في الرعاية
والعناية الضرورية، بل يعتبر هذه العناية وتلك الرعاية أمرين ضروريين على أن يحاط
هذا البعد بسياج الدين والخلق فيتكامل بذلك مع بقية العنصرين للطبيعة البشرية وهما
: العقل والروح، فالإسلام يرفض في الإنسان القوة المادية التي لا ترتبط بالإيمان
والأخلاق والرحمة".[47]
ثالثا
: قياس المستوى التربوي للفرد بالنظر إلى أثر التربية في المكونات الثلاثة :
انطلاقا مما سبق بسطه وعلى قاعدته
نستطيع أن نقرر بأن طبيعة المكونات أو الأبعاد الثلاثة، وطبيعة العلاقة بينها هي
التي تحدد المستوى التربوي للفرد. طالما أن العقل هو قوة تموقع الأفكار والمبادئ
الهادية والموجهة، والروح هي قوة الدفع المحركة للجوارح والسلوك، أو بتعبير آخر :
· العقل هو القوة الهادية والموجهة.
· الروح هي القوة الدافعة والمحركة.
· السلوك النابع عن الجوارح هو القوة
العاكسة.
وبحسب طبيعة هذه المكونات
وحمولتها التربوية يمكننا قياس المستوى التربوي للفرد الذي لا يخرج عن أربع حالات،
واحدة منها صحية وثلاثة مرضية.
*الحالة
المرضية
الأولى : دمور في العقل والروح معا
(عقل بلا علم، وروح بلا تزكية) = سلوك فاسد وأمراض تربوية كالكلية والجهل
والانحراف وفساد الطبع... [حالة مرضية عامة].
*الحالة
المرضية
الثانية : تضخم
في الأفكار والمعارف + ضعف روحي وشلل إرادي = سلوك منحرف وغير متوازن يتشخص في شكل
أمراض تربوية كالغرور والتكبر وحب الظهور والعجز...
*الحالة
المرضية الثالثة :
دمور عقلي + توقد وجداني وحماس
عاطفي = سلوك منحرف وغير متوازن أيضا يتمثل في أمراض تربوية من نوع آخر كالحماس
الزائد والتهور والاندفاع والقلق والتوتر والخطأ وما إلى ذلك.
*
الحالة الصحية : توازن وتكامل بين المكونات الثلاثة
فلا يطغى جانب على جانب آخر، ولا يغفل مكون في مقابل الاهتمام الزائد بآخر.
يقول
الإمام ابن القيم -رحمه الله- :
"ولقد كان كمال الإنسان بالعلم
النافع، والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين، كما
قال تعالى : }وَالْعَصْرِ.
إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر{ (العصر).
أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل
قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق
والصبر عليه، فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما والتواصي
بهما"[48]
وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي :
"خلق الله الإنسان وجهزه بحقيقتين
عظيمتين هما : العقل والقلب وأقام كلا منهما على وظيفة لا يتأتى أن يقوم بها غيره
ولا يصلح من دون تحقيقها شيء من أمر الدنيا والآخرة. أما العقل فوظيفته أن يقبل
على الأشياء فيدركها على حقيقتها وأن يستدل بظواهر الأمور على ما ورائها وأن يتوصل
من وراء ذلك إلى معرفة الله عز وجل وإلى الإيمان بربوبيته المطلقة وأما القلب
فوظيفته أن يسير من وراء هدي العقل فيحب الخير الذي أثبت العقل أنه الخير ويكره
الشر الذي أثبت العقل أنه شر ويجعل ملاك ذلك كله في سبيل مرضاة الله عز وجل واتباع
شرعه ولابد لعمارة الكون وتحقيق النظام فيه من عمل كل من هذين الجهازين، فلولا
العقل لامتزجت نزوات النفس وأهواؤها بخفقات القلب وعواطفه : }وَلَوْ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ{ (المومنون71) ولولا القلب لما وجد الخير : إلا في دنيا الوهم
والخيال ولظل بنيان الفضائل والمثل العليا مجرد رسوم وخطوط على الورق، والعقل إذا
هو القدرة الكاشفة والمخططة والقلب هو القوة الدافعة والمحركة، ولا بد في كل عمل
أو بناء من التخطيط المنظم له أولا ثم الأداة المنفذة له ثانيا، ونظرا لأن الإسلام
هو جامع الفضائل كلها فقد كان لا بد للقيام بعمله هذا من الاعتماد على كل هذين
الجهازين العظيمين، فمن أجل ذلك جاء الإسلام يخاطب العقل والقلب معا، يخاطب العقل
ليدرك ويتدبر ويخاطب القلب ليحب ويتأثر"[49]
ويقول الدكتور عمر التومي الشيباني
مؤكدا على ضرورة التكامل بين هذه المكونات الثلاثة :
"والإنسان في سلوكه ومواجهته
لمشكلات الحياة إنما يعمل بكامل شخصيته وبكيانه المتكامل الذي تعمل فيه كافة
نزعاته وقواه الوجدانية والروحية والعقلية والبدنية : الفطرية والمكتسبة، متعاونة
ومترابطة ومتكاملة فيما بينها، فتكامل هذه النزعات والقوى شرط في تكامل شخصية
الإنسان وتوازنها"[50]
هذا وفي حالة اختلال التوازن أو بالأحرى
في حالة تعطيل وإهمال هذه المكونات الثلاثة فإن الإنسان ينحط إلى درك أدنى من درك
الحيوان. يقول الدكتور الشيباني :
"الإنسان حتى في حال حياته
إذا ما انطفأ فيه نور العقل الذي فضله به
الله على سائر أنواع الحيوانات الأخرى وانطفأت منه شفافية الروح التي تدفعه إلى
الإيمان بالغيب، وتجعله يتعلق بالملأ الأعلى أصبح مثله مثل الحيوان بل هو أضل
سبيلا، وصدق الله العظيم : }وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا
يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ
الْغَافِلُونَ{ (الأعراف179)"[51].
رابعا
: مبدأ التسلسل التربوي في إصلاح الإنسان :
وإذا ما أردنا أن
نحدد التسلسل في إصلاح الفرد وتربيته بالنظر إلى المكونات الثلاثة السالفة الذكر،
فإننا نستطيع أن نقول بأنه بالقدر الذي يزداد ويترسخ علم الإنسان بالمبدأ أو الأصل
الفكري الاعتقادي :
}فاعلم
أنه لا إله إلا الله{(محمد19)، بالقدر الذي يزداد وعيه بحقيقته، وبالقدر الذي يزداد
وعيه بحقيقته يتفاعل وجدانه معه قال تعالى : }اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ{(الزمر23)، فالقشعريرة ولين الجلود والقلوب إنما هو نتيجة لكون
القرآن أحسن الحديث كما في الآية، وهو بذلك يستقطب التفاعل الوجداني معه.
ثم إنه بالقدر الذي يتم هذا التفاعل الوجداني والروحي مع المبدأ تقوى العزيمة
وتتحرر الإرادة، قال تعال : }وَكَتَبْنَا
لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ
شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ{ (الأعراف 145)، إذن هناك (الموعظة) وما تحدثه من أثر في الوجدان
والنفس إذا حدث التفاعل الإيجابي معها، ثم هناك (الأخذ بقوة) كنتيجة طبيعية لذلك.
ثم
إنه بالقدر الذي تقوى عزيمة الإنسان وتتحرر إرادته، تزداد فعاليته وحركيته وتأثيره
ونشاطه، ويتحرر بالمقابل من العجز والكسل، قال تعالى: }أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{ (الزمر9).
فالقنوت
والحذر من الآخرة ورجاء الرحمة في الآية إنما هو ثمرة للعلم كما تشير إلى ذلك
الآية إشارة لطيفة في الأخير. العلم الذي يحرك الوجدان ويحرر الإرادة ويدفع للعمل
طبعا، وغيره لا يعتبر في المفهوم الإسلامي القرآني علما.
ويؤكد هذا التسلسل وهذه التراتبية قوله
تعالى : }وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ{ (الحج54).
"فهذه المعاني الثلاثة مترتب بعضها
على بعض.فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا تعقيب، ليعلموا فيؤمنوا. والإيمان
تتبعه حركات القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان ويثمر
الإيمان الإخبات والتواضع لله رب العالمين".[52]
فقد اتضح إذا أن العمل أو السلوك ليس
ثمرة للفكر وحده كما يقول الفيلسوف اليوناني "سقراط" [53]،
وليس ثمرة للإرادة وحدها كما يقول
الفيلسوف الألماني "كانت"، [54] بل
هو ثمرة للتفاعل بين الوجدان والفكر بما يولد الإرادة ويدفع إلى العمل. ومن ثم فإن
السلوك يؤسس على كل من الفكر والوجدان والإرادة كما ذهب إلى ذلك الدكتور محمد عطية
الأبراشي.[55]
لكن لابد من الإشارة هاهنا إلى أن البداية تكون بإصلاح مبدأ التفكير والاعتقاد
مرورا بتزكية النفس أو الروح وانتهاء بإصلاح العمل، وكل خطوة تقود للتي تليها بحكم
التفاعل الطبيعي بينها. يقول العلامة "الطاهر بن عاشور" :
"فقد انتظم لنا الآن أن المقصد
الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد، وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع
فساده، فإنه لما كان هو المهيمن على هذا العالم كان في صلاحه صلاح العالم وأحواله،
ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه وبصلاح
مجموعه وهو النوع كله، فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ
التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم
عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال
الصالحة كما ورد في الحديث : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا
فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وقد قال الحكماء : (الإنسان عقل تخدمه
الأعضاء)، ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل وذلك بتفنن التشريعات كلها، فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه يحصل بالتدرج
في مدارج تزكية النفس".[56]
ولنأخذ مبدأ "التوحيد"
باعتباره أصلا الأصول العقدية في الإسلام ونطبق عليه التسلسل المذكور :
فإنه
كلما ازداد علم الإنسان بهذا المبدأ –إما عن طريق تفاعل الإنسان مع المحيط وتأمله
في الكون أو عن طرق أخرى معاضدة-مصداقا لقوله تعالى : }فاعلم
أنه لا إله إلا الله{ (محمد19)، بما هو إفراد لله تعالى بالوحدانية في ألوهيته وربوبيته
وأسمائه وصفاته، وتوسع إدراكه لمقتضيات هذا المبدأ ومستلزماته ودلالاته وامتداداته
في النفس والمجتمع والكون، إلا ويحصل له وعي تام به، فيتفاعل وجدانه معه تبعا
لذلك، فإذا بالروح تتحرر من الجبن والخوف، ومن عبادة شهوة البطن، أو الفرج، أو
المال، أو الأولاد، أو الهوى بصفة عامة، والطاغوت كيفما تشكل باعتبار ذلك كله مما
يتناقض مع مبدأ التوحيد، يقول تعالى: }أَرَأَيْتَ
مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا{ (الفرقان43)، ويقول أيضا: }وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ
الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ{ (الزمر17). وكنتيجة طبيعية لذلك تقوى عزيمة الإنسان وتتحرر إرادته
وتتفجر قوته المعنوية فتعطي الإشارة للجوارح، وتدفعها دفعا لتحقيق مبدأ التوحيد في
الواقع المعيش للإنسان، فتجيده يقيم علاقاته مع مختلف العوالم المحيطة به على أساس
"التوحيد" أيضا بما هو وحدة وانسجام وتناغم وتكامل وتعاون وبناء، لا على
أساس التناقض والصراع والإقصاء والتدمير كما هو ثابت في الماركسية أو اللبرالية.
وبهذا التدرج في بناء هذا الأصل الاعتقادي يصبح التوحيد أداة منهجية راسخة في
التشكيلة العقلية للإنسان، ومعطى ثابتا في محتواه الداخلي، وقاعدة أساسية في حياته
العملية كلها، بالشكل الذي إذا ضرب قطا في الشارع مثلا أحس في نفسه ضيقا وحرجا
وخوفا من عقاب الله تعالى، وإذا اغتصب زهرة من حديقة وألقاها في الوحل أحس الإحساس
نفسه إذ المسألة في عمقها عقدية، وحصيلة لتسلسل تفاعلي بين الوجدان والعقل والروح.
وللإشارة فإنه بالقدر الذي يكون المبدأ
أو الأصل الفكري الاعتقادي أثقل وأعمق بالقدر الذي يتطلب مجاهدة نفسية أكبر وأشق،
وبالمستوى ذاته يكون التأثير في الواقع أقوى وأظهر. فليس الجهاد بالنفس هو إماطة
الأذى عن الطريق، وليس الإيثار هو العدل، وليس الصبر هو رد السلام إلى غير ذلك من
المفاهيم التربوية التي تختلف من حيث درجتها.
وبقدر
حجم المجاهدة الذاتية من أجل تمثل المفاهيم التربوية السامية والكبيرة والارتقاء
إلى مستواها يكون التفاضل بين الناس في المستوى التربوي.
خامسا
: ملاحظات عامة
لابد
في ختام هذا البحث من إثارة مجموعة من الملاحظات المتفرقة ذات العلاقة بالموضوع
وهي :
· لابد في التربية من التكوين العصامي
والمجاهدة الذاتية. يقول د. عمر التومي الشيباني :
"وليستطيع
الإنسان القيام بالدور المنوط به في تأدية رسالته في الحياة، عليه جانب كبير من
المسؤولية في إعداد نفسه".[57] خاصة
وأن الإنسان فقيه نفسه كما يقول الإمام "الشاطبي" -رحمه الله-، وكما قال
"سقراط" : اعرف نفسك بنفسك. فلا مجال إذا للاتكال والانتظار، ولا مسوغ للاستلام للضعف
والعجز والتخلف على كافة المستويات عقلية كانت أو روحية أو خلقية في ظل تحديات
الواقع المعاصر التي تشترط في المستجيب لها جانبا كبيرا من القوة والأمانة.
· من أهم الوسائل والعناصر التي تسهم
إسهاما قويا في تكوين الإنسان وتأهيله تربويا : الاحتكاك الميداني والاستفادة من
التجارب العملية وحسن استثمارها، لأن السباحة لا تتعلم في البر، ولأن البحر الهادئ
لا يصنع أبدا بحارا ناجحا ففي الأمواج والأعاصير تظهر قدرات الرجال.
· وكما لابد للتربية من التركيز على مكونات
الإنسان الثلاثة السالفة من اجل الارتقاء بها جميعا لابد لها أيضا من الاهتمام
بالواقع الاجتماعي والكوني الذي يعتبر
هذا الإنسان جزء لا يتجزأ منه، وهنا تبرز أهمية التربية الاجتماعية[58]
والتربية الجمالية[59] إذ
بدونهما يبقى بناء الإنسان ناقصا وتوازنه مختلا.
خاتمة
:
ونسوقها في شكل قواعد مركزة تعتبر خلاصة
لكل ما سبق :
1.
لا قيمة لأية تنمية إذا لم تبدأ بتنمية الإنسان.
2.
التربية الشاملة والمتوازنة هي سبيل تنمية الإنسان
والارتقاء به.
3.
عطاء الإنسان رهين بمدى قوة مكوناته الثلاثة : العقل
بما هو وعاء للعلم، والقلب بما هو وعاء للإيمان، والجوارح بما هي وعاء للسلوك.
4.
سعادة الإنسان في توازن شخصيته، وتوازن شخصيته في
تكامل مكوناتها وأبعادها.
5.
إصلاح الإنسان يبدأ بإصلاح مبدأ التفكير والاعتقاد
لديه أولا وقبل كل شيء.
6.
التفاعل الوجداني مع مبدأ التفكير والاعتقاد ضروري من
أجل تحرير الإرادة وتوليد القدرة على العمل.
7.
التربية الناجحة المحكمة هي التي تضبط إيقاع حركة
المبدأ على إيقاع حركة الواقع.
8.
كل إنسان يتحمل قسطا من المسؤولية في تربية نفسه
وتأهيلها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1]
لسان العرب – باب الذال – ربب.
[2]
الصحاح – فصل الراء.
[3]
عن كتاب "التربية في الإسلام" للدكتور أحمد فؤاد الأهواني. ص: 229 دار
المعارف.
[4]
عن كتاب "أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية" للدكتور عبد الحميد
الصيد الزنتاني. ص: 24 الدار العربية للكتاب.
[5]
نفسها.
[6]
عن كتاب "أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية" للدكتور عبد الحميد
الصيد الزنتاني. ص: 24 الدار العربية للكتاب.
[7]
"مقدمة ابن خلدون" ص:301 وما بعدها.
[8]
عن كتاب "روح التربية والتعليم" لمحمد عطية الأبراشي، ص5-6، ط11، دار
إحياء الكتب العربية.
[9]
نفسها.
[10]
نفسها.
[11]
نفسها.
[12]
"علم النفس وفن التربية" جان بياجي، ترجمة : محمد بردوزي، ط6، 1995، دار
توبقال للنشر، الدار البيضاء.
[13]
"روح التربية والتعليم" لمحمد عطية الأبراشي، ص7.
[14]
عن كتاب "أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية" للدكتور عبد الحميد
الصيد الزنتاني. ص25.
[15]
"مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي" د. عمر التومي الشيباني. ص5-6، ط1 –
1987م – الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلام.
[16]
المرجع نفسه ص48.
[17]
انظر "مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي للدكتور عمر التومي الشيباني"،
ص77 وما بعدها.
[18]
"الفكر الإسلامي : أصوله ومناهجه" لمحمد تقي المدرسي،ص10، ط2، 1985م، من
منشورات منظمة العمل الإسلامي في العراق.
[19]
"مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي" د. عمر التومي الشيباني، ص75.
[20]
الحديث أخرجه الترمذي وغيره.
[21]
الحديث أخرجه أحمد عن أسامة بن شريك.
[22]
"الرسول والعم" د. يوسف القرضاوي، ص41.
[23]
"الرسول والعم" د. يوسف القرضاوي، ص41.
[24]
انظر "الرسول والعلم د. القرضاوي، ص38 وما بعدها.
[25]
"الرسول والعلم د. القرضاوي، ص15.
[26]
"صفوة التفاسير" للصابوني، ص357.
[27]
أنظر "الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي 1/52.
[28]
نفسه 1/48.
[29]
الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي 1/48.
[30]
نفسه 1/52.
[31]
نفسه 1/52.
[32]
نفسه 1/41.
[33]
الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي 1/42.
[34]
نفسه 1/47.
[35]
انظر المرجع نفسه 1/44 وما بعدها.
[36]
"شروط النهضة" لمالك بن نبي ص103. ط4 – 1987، دار الفكر بدمشق.
[37]
أنظر هذه الدعائم مفصلة في كتاب "الرسول والعلم" للقرضاوي ص38 وما بعدها
وكذا ص13-14.
[38]
"القراءة" في التصور الإسلامي لا تعني "المطالعة" فقط كما قد
يتوهم الكثير، بل إن مفهومها أوسع وأشمل بحيث تعني بالإضافة إلى قراءة ما هو
مكتوب، التأمل في النفس والآفاق أي في الكون بأسره بغية الوصول إلى معرفة الله
تعالى حق المعرفة وعبادته حق العبادة كهدف أسمى لها. ونؤكد هنا على ضرورة إعادة
الاعتبار للقراءة بهفهومها الضيق – أي المطالعة – أمام هذا العزوف والازورار عنها
من قبل المسلمين مثقفين وغير مثقفين، وأمام هذا الزحف الداهم للإعلام المرئي. لأنه
كما يقول " مالك بن نبي " : " الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها
".
[39]
هذه التعاريف من كتاب "الفكر الإسلامي : أصوله ومناهجه" لمحمد تقي
المدرسي ص10، ط2 منشورات منظمة العمل الإسلامي في العراق.
[40]
"مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي" ص282-284.
[41]
أخرجه الترمذي – كتاب تفسير القرآن.
[42]
أخرجه البخاري – كتاب الرقاق.
[43]
عن كتاب "الإنسان بين دوافع الخير ونوازع الشر" إعداد : د. أبو بكر أحمد
السيد. ص73، ط1 ، 1993. دار القلم للنشر والتوزيع.
[44]
أخرجه البخاري – كتاب اللباس.
[45]
أخرجه الترمذي – كتاب الطب
[46]
"مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي" للدكتور الشيباني ص185-186.
[47]
نفسه ص64.
[48]
"تهذيب مدراج السالكين" كتبه الإمام ابن القيم وهذبه عبد المنعم صالح
العلي العربي، ص19.
[49]
"الفكر والقلب" لمحمد سعيد رمضان البوطي. (ص96-104).
[50]
"مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي" ص226.
[51]
نفسه ص49.
[52]
"الرسول والعلم" للدكتور القرضاوي ص15.
[53]
انظر "روح التربية والتعليم" لمحمد عطية الأبراشي ص85.
[54]
نفسه ص84.
[55]
نفسه ص84.
[56]
"مقاصد الشريعة الإسلامية" لمحمد الطاهر بن عاشور ص64-65.
[57]
"مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي" ص274.
[58]
لمن أراد التفصيل في موضوع التربية الاجتماعية فلرجع إلى كتاب "أسس التربية
الإسلامية في السنة النبوية" للدكتور عبد الحميد الصيد الزنتاني ص765 وما
بعدها، وكذا كتاب : "روح التربية والتعليم" لمحمد عطية الأبراشي ص41 وما
بعدها.
[59]
لمن أراد التفصيل في موضوع التربية الجمالية فليرجع إلى كتاب "روح التربية
والتعليم" ص44 وما بعدها.