التسميات

ملخص محاضرات تاريخ التشريع/ إدريس أوهنا









ملخص محاضرات تاريخ التشريع
                             السنوات الجامعية:
  2014 -2015/2015-2016/2016-2017/2017-2018

المحاور :
  معنى الشريعة والتشريع
  معنى الفقه 
الفرق بين الشريعة والفقه
الفرق بين التشريع الإلهي  والتشريع الوضعي
أهمية دراسة الفقه الاسلامي          
تطور التشريع في عهد الرسالة  
 التشريع  في عصر الخلفاء الراشدين
 الشريعة في عصر صغار الصحابة وكبار التابعين  
 التشريع في عصر الإيمة المجتهدين   
عصر الجمود وشيوع التقليد المذهبي
 عصر الانحطاط والتقليد المحض  
العصر الحديث أو عصر التقنين الفقهي
بالإضافة إلى إنجاز عروض في:
المذهب الحنفي : أعلامه، ومصادره، وأصوله .
المذهب المالكي : أعلامه، ومصادره، وأصوله .
 المذهب الشافعي: أعلامه، ومصادره، وأصوله .
   المذهب الحنفي : أعلامه، ومصادره، وأصوله.

1)  معنى الشريعة والتشريع:
أ- في اللغة:
الشرع والشريعة والشرعة والتشريع في اللغة كلها راجعة إلى أصل واحد هو مـــادة "شرع"، قال صاحب المصباح:
" (الشرعة ) بالكسر الدين، والشرع والشريعة مثله، مأخوذ من الشريعة وهي مورد الناس للاستقاء، سميت بذلك لوضوحها وظهورها، وجمعها شرائع، وشرع الله لنا كذا يشرعه أظهره وأوضحه "([1])
ووجه المناسبة بين الشريعة وهذه المعاني اللغوية: مورد الناس للاستقاء، الوضوح والظهور من جهة، والتطهر والارتواء والنجاة من جهة ثانية ، أي أن من اتبع أحكام الشريعة، واهتدى بهديها في تفاصيل حياته ارتوى وتطهر، وسار على الطريق الواضح المفضي إلى النجاة والفوز.
ب- في الاصطلاح:
تطلق الشريعة في اصطلاح علماء الشريعة بمعنى عام ومفهوم موسع شامل لجميع أحكام وتكاليف ومجالات الشريعة؛ "فالدين والملة والشريعة في هذا المفهوم الموسع، شيء واحد"([2])
ومما يستدل به على هذا المعنى قوله تعالى: [ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه]([3])
وتطلق بمعنى خاص ومفهوم مضيق قاصر على الأحكام العملية، دون غيرها من الأحكام الشرعية الأخرى. ومما يستدل به على هذا المعنى قوله تعالى:   [ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ]([4]"فهو يدل على التغيير والاختلاف بين الشرائع المنزلة، وهذا لا يكون إلا في الأحكام العملية، أما العقيدة فهي ثابتة مع الثوابت المشتركة بين الشرائع، بل هي الركن الأعظم في تلك الثوابت"([5])
ويبقى الأصل في المعنى الاصطلاحي للشريعة هو المعنى الأول، أي: ما شرع الله لعباده من أحكام بصفة عامة؛ سواء تعلقت بالعقائد، أو العبادات، أو الأخلاق، أو المعاملات؛  قال القرطبي: "والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين"([6])
2) معنى الفقه :
الفقه في اللغة :هو الفهم ومنه قوله تعالى: {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}  النساء/ 78
وقوله تعالى : {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول}  هود/ 81
 وقوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
أما في الاصطلاح : فالفقه هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية "، وهو المعنى المراد عندنا في هذا المقرر.
3)الفرق بين الشريعة والفقه :
ü        من حيث المصدر والمنشأ: الشريعة هي أحكام الوحي الكلية و الجزئية في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام .
أما الفقه فهو: آراء المجتهدين من علماء الأمة، استنادا إلى أدلة الكتاب والسنة .
ü        من حيث المفهوم: الشريعة أوسع مفهوما من الفقه إذ يدخل في مفهومها العقائد والأخلاق والأخبار.
ü        من حيث الخصائص  :
-         الشريعة كمال لا يعتريه النقص وصواب ،لا يعتريه الخطأ، بخلاف الفقه فإنه لا يسلم من النقص والخطأ لأنه اجتهاد بشري.
-          الشريعة ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان، بخلاف أحكام الفقه فإنها تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال .
4 الفرق بين التشريع الإلهي  والتشريع الوضعي :
 يفرق بين التشريع الإلهي والتشريع الوضعي من وجوه عدة أهمها ما يلي:
أ- القانون الوضعي من صنع البشر الذين يتصفون بطبيعتهم بالنقص والقصور ،  وتتحكم فيهم الأهواء والنزعات المختلفة،  فيقعون تحت تأثير هذه العوامل فيما يشرعون من قوانين .. بخلاف الشريعة فهي وحي إلهي منزه عن ذلك كله ، قال تعالى:  { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} ، وقال تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } وقال: { لا يضل ربي ولا ينسى }.
ب- القانون الوضعي نظام محدود القواعد ، يلبي حاجات الجماعة في تنظيم حياتهم الحاضرة  ، والتشريع الإلهي أوسع من ذلك بكثير؛ إذ ينظم علاقة الإنسان بخالقه ، وعلاقته بنفسه ، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالعوالم المحيطة به من نبات وحيوان وجماد .
ج- القانون الوضعي يهمل الأخلاق، ويقصر المخالفة على ما فيه ضرر مباشر للأفراد، أو ما فيه إخلال مباشر بالنظام العام، فلا تعاقب القوانين الوضعية على الزنا مثلا إذا كان برضى الطرفين، بخلاف الشريعة الإسلامية فإنها تعلي من شأن الأخلاق وتجعلها غاية تربوية للعقائد والعبادات، والتزاما أدبيا في المعاملات، تستقيم بها أحوال الفرد والجماعات.
د- سلطة القانون الوضعي على النفس البشرية سلطة هشة وضعيفة ، لأن سلطة العقوبة الدنيوية وحدها لا تكفي لردع المجرمين ، كما يمكن التحايل على القانون الوضعي للإفلات من العقاب.
أما التشريع الإلهي فينبثق من فكرة الحلال والحرام من منطلق الإيمان بالله واليوم الآخر ، ويربي الضمير الإنساني ليكون رقيبا على صاحبه في السر والعلن؛ يخشى عقاب الله الأخروي أكثر من خشيته للعقاب الدنيوي، ومن ثم فهو يتعبد الله تعالى بامتثال أحكام شريعته طواعية ، وينتظر الجزاء منه وحده على ذلك .
ه- القانون الوضعي يعنى أساسا بالزجر عن المفاسد ، بينما التشريع الإلهي يقصد إلى جلب المصالح ودرء المفاسد معنى .
 و- يجيز القانون الوضعي أحيانا ما يحرمه التشريع الإلهي كالاتجار في الخمور ، وفتح دور اللهو والمجون ، والتعامل بالربا ، زاعما أن هذا كفيل بمصلحة الناس ، أو لا يأتي بضرر على الأقل ، والواقع يكذب ذلك قبل الشرع.
_5) أهمية دراسة الفقه الاسلامي :          
-         التعرف على نشأة علم الفقه أو التشريع الإسلامي ، ومراحل تطوره ، وما ميز كل مرحلة منه ، وما ألفه أعلامه من إنتاج علمي: معرفي ومنهجي .
(الأهمية هاهنا تتجلى في استيعاب التراث الفقهي للأمة)
-         الوقوف عند نقاط الضعف ونقاط القوة في هذا التاريخ ، واستخلاص الدروس والعبر منها ، بتحاشى تكرار نقاط الضعف والوقوع فيها مرة أأخرى ، وبالنسج على منوال نقاط القوة وتطويرها.
(الأهمية ها هنا تتمثل في التجديد والتطوير بناء على حاجات الواقع المعاصر)



إطلالة على أطوار التشريع الإسلامي

مر التشريع الإسلامي بأطوار متعددة ومتنوعة، يمكن حصرها في سبعة، وهي:

1) التشريع في عصر الرسالة :  
نشأت الأحكام التشريعية مع نشأة الإسلام، أي مع بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمتد عصر النشأة هذا امتداد عصر الرسالة ،أي من بعثة محمد عليه السلام إلى وفاته سنة 11 هـ، وقد مر هذا الطور بمرحلتين اثنتين:   
المرحلة المكية : من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم الى هجرته، ومدتها اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما على وجه التحديد.
وفي هذه المرحلة كانت الأحكام الشرعية العملية قليلة جدا  بحكم أن التركيز كان على البناء العقدي والخلقي للشخصية المسلمة  .    
المرحلة المدنية :  من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى وفاته عليه السلام سنة 11 للهجرة ، ومدتها تسع سنوات، وتسعة أشهر وتسعة أيام .
 وهذه المرحلة هي مرحلة تشريع الأحكام العملية بحق، نظرا لدخول الناس في دين الله أفواجا ،  وتكون دولة إسلامية مكتملة الأركان بالمدينة المنورة ، وتعدد النوازل وكثرتها .
ولهذا شرعت بالمدينة أحكام الزواج والطلاق والبيع والشراء ، والإرث والوصية والحدود والجهاد وغيرها .
وفي كلتا المرحلتين كان مصدر التشريع هو الوحي بنوعيه : القرآن  الكريم والسنة النبوية.       
وقد تميز التشريع في هذا العصر بخصائص بارزة أهمها :
·          التدرج في التشريع
·           الاقتصار في التشريع و التقنين على ما تقتضيه حاجات الواقع .
·          التيسير والتخفيف
·           مراعاة مصالح الناس



2) التشريع  في عصر الخلفاء الراشدين :
 عرف الفقه والتشريع في هذه المرحلة نمو واتساعا لعدة عوامل :
أ- اتساع الفتوحات الإسلامية ، واختلاط المسلمين بغيرهم من الشعوب في الشام ومصرو العراق .
ب- هجرة كثير من الصحابة بعد انتهاء خلافة عمر إلى العديد من الأقطار المفتوحة حاملين معهم ذخيرة من الأحاديث النبوية ،اتخذوها مستندا في التشريع ، كما كانوا يجتهدون في المسائل التي تعرض عليهم ، ولم يكن لها أثر بالحجاز ، ويعطونها الحكم المناسب قياسا على المنصوص .
ج- ما تمخضت عنه الأحوال  السياسية من افتراق المسلمين إلى ثلاث طوائف بعد مقتل علي رضي الله عنه ( جمهور  وشيعة وخوارج ) ، ولمعرفة حقائق تاريخ الصحابة في هذا العصر، وما عرفه من أحداث واضطرابات ،يرجع على سبيل المثال لا الحصر إلى "البداية والنهاية" لابن كثير، و"العواصم من القواصم" لابن العربي ، و"تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والأعلام" للإمام الذهبي.
وحذاري من تاريخ اليعقوبي، ومروج الذهب للمسعودي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، فإن مؤلفيها من غلاة الشيعة الناقمين على الصحابة رضي الله عنهم.
وتميز منهج الصحابة الاجتهادي في هذا العصر بالنظر أولا في كتاب الله، فإن أعياهم ففي سنة رسول الله عليه السلام، فإن لم يجدوا لجأوا إلى استشارة أهل الرأي من  فقهاء الصحابة، وإلا ركنوا الى القياس، وتميز عمر بن الخطاب رضي الله عنه  في الاجتهاد حيث كان منهجه يقوم على مراعاة المصالح، وفهم النص في ضوء متغيرات الواقع .
وعليه فمصادر الفقه الإسلامي في هذا العصر هي : الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصلاح .
أما عن أبرز مميزات التشريع في هذا العصر فهي :
_ بروز الاجتهاد الفقهي باعتماد الإجماع أو القياس أو مراعاة المصلحة .
_ نشأة اختلاف في الأحكام بسبب اختلاف الصحابة في فهم  ما أجمل من القرآن ، وفي استيعاب السنة، وفي ملكات الاستنباط  حيث لا نص .
_ الاعتماد في تشريع الأحكام ونقلها على الرواية الشفهية ، حيث لم تدون بعد في كتب مستقلة .
3)  التشريع في عصر صغار الصحابة وكبار التابعين (العصر الأموي: 41هـ/100هـ)
 التا بعون هم العلماء الذين تلقوا العلم عن الصحابة ، وتأثروا بفقههم ومنهجهم ، ومن أبرزهم: سعيد بن المسيب  وسالم بن عبد الل في المدينة، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح في مكة، وإبراهيم النخعي والشعبي والثوري في العراق،  والحسن البصري  في البصرة، وطاووس بن كيسان في اليمن، والأوزاعي والزهري ومكحول وعمر بن عبد العزيز في الشام، ويزيد بن حبيب أستاذ الليث بن سعد بمصر.
وأهم ما ميز هذا العصر انقسام الأمة الى ثلاث طوائف : خوارج وشيعة وسنة ، وشيوع رواية الحديث وظهور الوضع فيه ، وبروز مدرستين فقهيتين:
ü      مدرسة الحديث ، نشأت في المدينة المنورة ، واشتهر من علمائها الفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمان، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، نظمهم القائل في قوله :
  إذا قيل في العلم سبعة أبحر *** روايتهم ليست عن العلم خارجة
         فقل: هم عبيد الله، عروة، قاسم ***سعيد، أبو بكر، سليمان، خارجة
وتأثر بهم من خارج المدينة: الثوري والشعبي بالعراق ، والزهري والأوزاعي  بالشام.
تميزمنهج هذه المدرسة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا نظروا في أقوال الصحابة ، فإن لم يجدوا توقفوا عن الفتوى، ولا يلجؤون إلى الرأي إلا في أضيق الحدود .
أهم أثر خلفته هذه المدرسة هو خدمة السنة النبوية الشريفة رواية ودراية .
ü      مدرسة الرأي: برزت في العراق بعدما انتقل إليها منهج أهل الرأي عن طريق عبد الله بن مسعود الذي تأثر بدوره بمنهج عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ومن أشهر علماء هذه المدرسة علقمة بن قيس وتلميذه إبراهيم النخعي ،ومسروق بن الأجذع الهمداني ، وشريح بن الحارث وغيرهم، ولم يكن الأخذ بالرأي قاصرا على أهل العراق بل وجد من الفقهاء من أخذ بهذا المنهج حتى من أهل الحجاز كربيعة الرأي .
وانطبع منهج هذه المدرسة بالتوسع في العمل بالقياس ،وتوسيع دائرة الإباحة بالتماس الحيل الشرعية . خلاف ما كان عليه أهل الحجاز من سد الذرائع، وتجنب الفقه الافتراضي، وعدم تقديم القياس على خبر الواحد.
عوامل نشأة المدرستين :
ذكر المؤرخون في الفقه الإسلامي جملة عوامل أدت إلى ظهور المدرستين المذكورتين، ولعل أبرز العوامل التي أدت إلى بروز مدرسة الحديث هي:
·         كون المدينة موطن التشريع، ومأوى أكثر الصحابة، مما جعلها تتوفر على ثروة كبيرة من الحديث الشريف .
·         ما كان عليه أهل المدينة من بساطة الحياة وقلة النوازل والمتغيرات .
أما عوامل التوسع والاجتهاد في الرأي عند أهل العراق فيمكن إجمالها في الآتي :
·         تأثر أهل العراق بمنهج عبد الله بن مسعود الذي كان على طريقة عمر في الفتوى  والاجتهاد .
·          قلة الحديث بالعراق بالمقارنة مع الحجاز، وكثرة الوضع فيه بسبب العصبيات الطائفية والسياسية .
·         اتصال العراق بالحضارة الفارسية وتعرضه للفتن الطائفية والسياسية ما نتج عنه كثرة النوازل التي بحاجة إلى الاجتهاد اعتمادا على الرأي .
وللإنصاف فإنه لم يثبت في هذا العصر أن أحدا من علماء الأمة سواء بالحجاز أو بالعراق تعمد ترك الحديث الصحيح، وما روي عنهم من فتاوى خالفت السنة، فذلك فيما لم يصلهم فيه نص، أو لم يصح عندهم، أو عارضه ما هو أقوى منه سندا أو دلالة.
4) التشريع في عصر الأئمة المجتهدين (العصر العباسي الأول من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع)
عرفت هذه المرحلة ازدهارا كبيرا في الحركة العلمية عامة والفقهية خاصة  للأسباب التالية :
·          رعاية الدولة العباسية للحركة العلمية وتشجيع مجالس العلم والمناظرة .
·          توفير الحرية الفكرية  للمجتهدين رغم بعض الحوادث المتفرقة.
·         اختيار القضاة من جملة الفقهاء المبرزين .
·         تدوين السنة وعلم أصول الفقه ، واتساع حركة التدوين الفقهي التي بدأت بشكل منظم وواسع بعد منتصف القرن الثاني الهجري ، ومن أقدم المصنفات الفقهية التي دونت في هذا العصر كتاب الموطأ للإمام مالك وهو كتاب فقه وحديث ، وكتاب الأم للشافعي ، وكتاب الخراج لأبي يوسف.
وقد تميزت هذه المرحلة بظهور العلماء والأئمة والمحدثين ، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة ، الذين سنتناول سيرهم ومذاهبهم بشيء من التفصيل في المحاضرات اللاحقة إن شاء الله.
5 )عصر الجمود وشيوع التقليد المذهبي (من منتصف القرن الرابع إلى 656هـ)
بعد الأئمة المجتهدين ، اتجه فقهاء المذاهب للتقليد وتأليف الشروح والمختصرات والمتون والحواشي ، وشاعت ظاهرة التعصب المذهبي فكثر الجدل والمناظرات ، وبلغ الأمر بالمقلدين إلى أن اختلفوا في حكم تزويج الحنفي بالشافعية ،فقال بعضهم  لا يصح لأنها تشك في إيمانها ، لأن الشافعية يجوزون أن يقول المسلم :أنا مؤمن إن شاء الله .
ونادى بعض الفقهاء بإغلاق باب الاجتهاد واعتبروا كل مجتهد مبتدع ، فأصبحت المذهبية والتقليد روح هذا العصر ، ومع ذلك فقد برز في هذا العصر فقهاء كبار أثروا الفقه الإسلامي خصوصا في بابي: التخريج(تخريج العلل وأًول المذهب) والترجيح(الترجيح بين آراء فقهاء المذهب) نذكر من الحنفية: أبو الحسن الكرخي   ( ت 340 هـ )، وأبو بكر الجصاص (ت 370 هـ) ، وأبو زيد الدبوسي (ت 440 هـ)  وغيرهم، ومن المالكية: ابن لبابة الأندلسي (ت 326 هـ)، وأبو الوليد الباجي (ت 494 هـ) والقاضي عبد الوهاب (ت 422 هـ) ، وأبو عبد الله المازري (ت 536 هـ) ، وأبو بكر بن العربي (ت543هـ) ، والقاضي عياض (ت 547 هـ) وغيرهم ، ومن نوابغ الشافعية : أبو اسحاق المرويزي (ت 340 هـ) ،ومحمد القفال الكبير الشاشي (ت 365هـ) ،وعبد الله القفال الصغير (ت 417 هـ) ، وإمام الحرمين الجويني (ت 487 هـ)، وأبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) ، والإمام النووي (676هـ).
وترجع عوامل الركود في هذا العصر إلى العوامل الآتية :
ü      تفرق الدولة الإسلامية إلى دويلات وإمارات مستقلة في المشرق والمغرب   ( بنو أمية في الأندلس ، والفاطميون ثم الأيوبيون في مصر، والأدارسة في المغرب) مما فتح المجال أمام الصليبين للاستيلاء على بيت المقدس .
ü      تدخل الولاة في القضاء وإلزام القضاة بمذهب معين .
ü      قصور الهمم عن الاجتهاد.

6)  عصر الانحطاط والتقليد المحض
  يبتدئ هذا العصر بسقوط بغداد عام 656 هـ على يد هولاكو، وانهيار الخلافة العباسية الى أوائل عصر النهضة الفقهية بصدور مجلة الأحكام العدلية سنة 1295 هـ، إبان حكم الدولة العثمانية.
وتميز هذا العصر بشيوع روح التقليد المحض حيث ضمر الاجتهاد على العموم داخل المذهب وخارجه ، وذلك لعدة أسباب :
·         انقطاع الصلة بين علماء الأمصار وفتور الرحلة في طلب العلم؛ فلم يعد تحصيل العلم رواية وتلاقيا بما يكون الملكات ويفجر القرائح بل تم الاقتصار فيه على الأخذ من الكتب ،وليتهم رجعوا إلى كتب الأئمة المجتهدين ، إنما اقتصروا على المتون والمختصرات و الحواشي ، وفي ذلك قال: السيد سابق " ووقف العلماء لا يستظهرون غير المتون ولا يعرفون غير الحواشي وما فيها من إرادات واعتراضات وألغاز ، وما كتب عليها من تقريرات " ( فقه السنة ج 1 ص 16 )
وصار اختصار المطولات صناعة في هذا العصر ، فتحولت المختصرات إلى ألغاز وطلاسم تجمع بين رتابة العبارة وغموض المعنى والخلو من الدليل ، حتى قال: ابن خلدون " فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها " (مقدمة بن خلدون) .
ورغم ركود الاجتهاد وشيوع التقليد المحض في هذا العصر فإنه لم يخلو من مزايا ونقاط مضيئة،  نحو بروز علماء كبار تركوا لنا آثارا نفيسة تعتبر اليوم من ذخائر المصنفات كالعز بن عبد السلام ، وابن الحاجب وابن دقيق العيد وتقي الدين السبكي ، وتاج الدين بن السبكي ، والشاطبي ، والبلقيني ، والإسنوي ، والكمال بن الهمام والسيوطي.
كما برز في هذا العصر كتب الفتاوى التي كانت من مظاهر نشاط حركة التدوين الفقهي في الجانب التطبيقي العملي كفتاوى ابن تيمية وفتاوى الشيخ عليش المالكي وغيرهما .
كما بدأت حركة التقنين لأحكام الفقه الإسلامي بصدور مجلة الأحكام العدلية عام 1295 هـ، التي ذهب المؤرخون الى اعتبار صدورها بمثابة نهاية لعصر الركود رغم أنها ظهرت في ظلال التعصب المذهبي؛ لتقيدها بالمذهب الحنفي الذي كان عليه القضاء في عهد الخلافة العثمانية .
7) العصر الحديث أو عصر التقنين الفقهي
والذي بدأ مع الدولة العثمانية وإصدارها لمجلة الأحكام العدلية عام 1295هـ
مشتملة على 1851 مادة مأخوذة في غالبها من الفقه الحنفي ، ليتم الغاؤها واستبدالها بالقانون الفرنسي إبان فترت الاستعمار ، ثم العودة بعد ذلك لقوانين الأحوال الشخصية التي لم  تتقيد بالمذهب الواحد ، ومن مزايا هذا العصر :
ü      اعتماد الفقه المقارن في مجال التأليف والبحث الشيء الذي خفف من وطأة التعصب المذهبي .
ü       بروز ظاهرة التخصص في التأليف الفقهي حيث ألف عبد القادرعودة في التشريع الجنائي ، وأصدر الدكتوريوسف القرضاوي  كتابه الشهير"فقه الزكاة" ، وكتب فقهية أخرى متخصصة لغيرهما من العلماء .
ü       الاستفادة من المناهج القانونية الحديثة خصوصا فيما يتعلق بالتقسيم والترقيم.
ü       النزوع الى تأليف الموسوعات الفقهية بأسلوب بسيط  وواضح لا يعلو على إدراك المثقفين ولا ينبو عن أذواق المتخصصين، وقد ظهرت أو محاولة في دمشق عام 1956م ، ثم بمصر عام 1957م ، ثم تبنت فكرة الموسوعة حكومة دولة الكويت ضمن إحياء التراث عام 1967 م  ،بإشراف الشيخ مصطفى الزرقا ، وتم في الآونة الأخيرة الفراغ من إنجاز معلمة زايد للقواعد .
ü      الدعوة للاجتهاد الجماعي عن طريق المجامع الفقهية بدل الاجتهاد الفردي ، للنظر في نوازل العصر ومستجداته، كالتعامل المصرفي، وأنظمة الشركات، والتأمين وغيرها .
واستجابة لذلك قامة مشيخة الأزهر عام 1961 م بإنشاء "مجمع البحوث الإسلامية" ضم لجنة للبحوث الفقهية اختصت ببحث القضايا المعاصرة التي تهم العالم الإسلامي وإصدار بحوث ودراسات في ذلك .
والباب مفتوح أمام الباحثين للإسهام في دفع عجلة تجديد الفقه الإسلامي، لما له من أثر مهم في بناء حضارة قوية ونقية .    



المراجع :
_ تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الوهاب خلاف .
_ تاريخ التشريع الإسلامي : عبد العظيم شرف الدين .
_ تاريخ التشريع الإسلامي : محمد الخضري بك .
_ تاريخ التشريع الإسلامي : مناع القطان .
_ تاريخ الفقه الإسلامي : عمر سليمان الأشقر .
_تاريخ الفقه الإسلامي : محمد علي سياس .
_ أبو حنيفة: حياته وعصره، آراؤه وفقهه  : محمد أبو زهرة . 
_ مالك: حياته وعصره، آراؤه وفقهه  : محمد أبو زهرة . 
_  الشافعي: حياته وعصره، آراؤه وفقهه  : محمد أبو زهرة .   
   




([1] ) المصباح المنير، كتاب الشين، مادة شرع، ص186.
 ([2]) الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، ص13.
([3] ) الشورى، 13.
([4] ) المائدة، 48.
 ([5]) الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، ص14.
([6] ) الجامع لأحكام القرآن، في تفسير قوله تعالى: [ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ].

شارك:

0 comments:

إرسال تعليق

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة

أرشيف المدونة الإلكترونية

Blog Archive