التسميات

حوار الله تعالى مع الملائكة / إدريس أوهنا


آيات وتأملات

 حوار الله تعالى مع الملائكة

 نص الانطلاق:
قال الله تعالى:
]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ.قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[([1]).

وقفة تدبرية:
يوحي قول الملائكة لله تعالى: ]أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك[؛ «بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض، وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض، وأنه سيسفك الدماء.. ثم هم -بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق وإلا السلام الشامل- يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له، وهو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلة الأولى للخلق.. وهو متحقق بوجودهم، يسبحون بحمد الله ويقدسون له، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته»([2]).
إلا أن منطقهم هذا، على ما يستند إليه من قرائن، يتهافت أمام المنطق الرباني والحكمة الإلهية من خلق آدم، المتمثلة في عمارة الأرض وتسخيرها؛ ولذلك قال لهم الله تعالى: ]إني أعلم ما لا تعلمون[.
والعبرة المستقاة من ذلك أن على المحاوِر أن لا يؤمن بإطلاقية ما يعتقده من أفكار وآراء مهما تكن القرائن التي قد تبدو دالة على صوابها، إذ مهما كان رأيي صائبا في اعتقادي الشخصي، فإنه يحتمل الخطأ؛ ومهما كان رأي غيري خطأ في اعتقادي الشخصي أيضا، فإنه يحتمل الصواب؛ وهو ما توجه إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ]وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين[([3]). فلابد أن نترك للنسبية مجالها في حواراتنا مع المؤالف والمخالف على حد سواء.
مما يفرضه الجو الصحي للحوار والتواضع للحق، في حالة عجز المحاوِر عن إدراك أمر من الأمور، أو في حالة وقوعه في الخطأ، أن يعترف بخطئه، ويقر بمحدودية علمه: ]قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم[.
وللأسف يلاحظ على كثير من شباب مجتمعاتنا وأكثرهم من (المثقفين) تطاولهم إلى ما ليس من شأنهم، ولا دليل لهم عليه من مسائل الفقه وغيرها، غير مبالين بقواعد العلم وشروط التعليم.. ومعلوم ما يترتب عن ذلك من مفاسد وأضرار على هؤلاء أنفسهم أولا، وعلى غيرهم ممن يحظون بثقتهم، ويسمعون كلامهم.. وتحضرني هنا قصة ذلك الرجل الذي أصابه جرح في عهد الرسول r ، ثم أصابته جنابة، فأفتاه بعض الناس بضرورة الاغتسال، فعمل بفتواهم، فتفاقم جرحه فمات، ولما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال منكرا عليهم: "..قتلوه، قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه"([4]).
ورحم الله عليا قال: «قصم ظهري رجلان: جاهل متنسك، وعالم متهتك، ذاك يغر الناس بتنسكه، وهذا يضلهم بتهتكه» ([5]).
وانظر إلى قول الملائكة عندما أخبرهم الله تعالى بخلق آدم؛ ]قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك[؟، وتأمل هذه العلاقة العجيبة بين الله تعالى المنزه عن كل نَقص، وبين ملائكته الكرام.. إنها علاقة تقوم -إن شئت القول- على أساس حرية التعبير، وحق إبداء الرأي، كما هو واضح من خلال كلامهم ذاك.. أوليس من باب أولى أن تقوم العلاقة بيننا نحن البشر أفرادا وهيئات وجماعات، ونحن المتصفون بالنقص والقصور والخضوع للأهواء، على الأساس نفسه؟! فننبذ بذلك كل أشكال التعصب والإقصاء والانغلاق في علاقاتنا مع الآخرين سواء الذين يتقاسمون معنا التوجهات نفسها، أو الذين يخالفوننا في القناعات والتصورات.. ألا نفعل ذلك حتى ولو علمنا أنه مفتاح من أهم مفاتيح معالجة أزماتنا ومشكلاتنا المعاصرة؟!


[1]- سورة البقرة، الآيات29-32.
[2] - "في ظلال القرآن"،1/57.
[3] - سورة سبأ، الآية24.
[4] - رواه أبو داود، وذكره في صحيح الجامع الصغير، 4362.
[5] - الحياة الربانية والعلم، د. يوسف القرضاوي، ص136.

شارك:

0 comments:

إرسال تعليق

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة

أرشيف المدونة الإلكترونية

Blog Archive