التسميات

آيات وتأملات: فوائد من حوار نوح عليه السلام مع قومه

آيات وتأملات



قال الله تعالى:
[ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ.فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ.قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ.وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ.قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ. قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ] . ( هود، 27/35 )

   من أجل لفت نظر قومه وجلب انتباههم استهل نوح عليه السلام حواره معهم بقوله: [ إني لكم نذير مبين ]، وهذا يحيلنا على أهمية فتح باب الحوار بما يشد انتباه الآخر ويشوقه للانفتاح على ما يقال بكل تدبر وإمعان.. وهو الأسلوب الذي سلكه القرآن الكريم في كثير من المواضع والمواضيع متوسلا إليه بتقنية السؤال أحيانا؛ كما في قوله تعالى: [ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ]، أو بتقديم الوعد والوعيد بين يدي التوجيه والإرشاد، إلخ. ويمكن بلوغ هذه الغاية بطريق تكرار العبارة أو رفع الصوت وخفضه بما يثير الانتباه، أو بطلب الإنصات من المخاطَب... 

   ثم انظر بعد ذلك إلى قول نوح عليه السلام: [إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم].. إنه الحوار في إطار المحبة التي عبر عنها بالخوف عليهم، بعيدا عن مشاعر الحقد والكراهية والتشفي والشماتة.
وإذا كان نصيب نوح عليه السلام أن يُجابَه وأتباعَه بعبارات التنقيص والاحتقار والازدراء.. فإن ذلك لم يخرجه عن حدود الجدال بالتي هي أحسن، ولم ينل من سماحته وترفعه عن الرد بالمثل؛ ولذلك أجابهم بقوله: [يا قوم أرايتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزموكموها وأنتم لها كارهون]. وهذا يؤكد أدبا مهما في الحوار وهو ضرورة الإمساك عن الخوض فيما ليس من ورائه فائدة، وقد ساق مصطفى العدوي في كتابه "أدب التخاطب" أمثلة من القرآن الكريم تجسد هذا الأدب الرفيع؛ نذكر منها قوله:

   «والفتية أصحاب الكهف تنازعوا شيئا ما في تحديد المدة التي لبثوها ثم أعرضوا عن الجدل إذ لا فائدة فيه. قال تعالى: [ربكم أعلم بما لبثتم...] [الكهف:19]. حقا فربكم أعلم بما لبثتم، وما الفائدة من وراء السؤال؟!
وأيضا لما اختلف القوم من بعدهم في عددهم أمر الله بالإعراض عن الخوض في أمرهم بغير علم، قال الله سبحانه وتعالى: [سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا] [الكهف:22]» ( أدب التخاطب، مصطفى العدوي، ص12/13 )

   ثم انظر إلى قول نوح عليه السلام: [ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله].. إنه من الحكمة أن يعمل الداعية في حواره مع المدعو على إزالة كل الشكوك من نفسه في أن له من وراء دعوته مطامع أو أغراضا شخصية، كما فعل نوح عليه السلام، وهو دأب الرسل جميعا.. فهذا هود عليه السلام حاور قومه بالمنطق ذاته قائلا: [يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون]. وهذا نبي الله صالح عليه السلام قال: [وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ]. وهذا لوط عليه السلام حاور قومه بالمنطق نفسه قائلا: [وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين]. وكذلك شعيب عليه السلام ، بل هذا خاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يحاور كفار قريش ممتطيا صهوة المنطق ذاته قائلا: [قل ما أسألكم من أجر فهو لكم، إن أجري إلا على الله، وهو على كل شيء شهيد].

   وتأمل معي بعد ذلك تواضع نوح عليه السلام للحق، وعدم تعاليه على قومه في الخطاب، معرضا بذلك عن أسلوب المزايدة البغيضة؛ حيث يقول: [ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يوتيهم الله خيرا. الله أعلم بما في أنفسهم. إني إذا لمن الظالمين ]. وإليك نماذج من أساليب الخطاب المفعمة بروح التواضع: 
فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في رسالته لهرقل: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم".

   وفي ثنايا الرسالة: [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله].
وسليمان عليه السلام كذلك يُرسل رسالته فيقول فيها: [ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ألا تعلوا علي واتوني مسلمين].
فمن ثم وصفته ملكة سبأ بقولها: [ إني ألقي إلي كتاب كريم ].
فلابد للمحاوِر إذاً أن يحذر من التعالي في الخطاب، والمزايدة على محاوَره، وإلا تحول الحوار إلى جدال بغيض تلفه مشاعر الحقد والكراهية، وتسكنه نوازع الغرور والعُجب والتكبر.
ولما عجز قوم نوح عن مقارعة الحجة بالحجة، لم يبق أمامهم إلا امتطاء صهوة العناد والتحدي والسخرية، كما يدل على ذلك قولهم: [ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ].
فهل نال ذلك من تواضع نوح وهدوئه؟!
[ قال إنما ياتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ].
ثم يأتي التوجيه الإلهي بعد ذلك إلى نوح عليه السلام ليغلق الباب على كل جدال لا ينتهي إلى نتيجة: [ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ].

   وإذا كان حوار نوح عليه السلام مع قومه قد انتهى في هذا النص بإغلاق باب الجدال الذي لا فائدة منه، فإنه بقي مفتوحا على مر العصور والأزمان لكل من أراد أخذ العبرة منه، ذلك أنه -كما يقول حسين فضل الله-: «يجسد لنا -في أسلوب واضح- الفرق بين أسلوب الرسول في الدعوة وبين أسلوب الكفار في الرد، ويثير أمامنا -من خلال ذلك- قصة الدعوة والدعاة في كل زمان ومكان، فيما يجب أن يكونوا عليه من الروح الهادئة الواثقة التي تقابل التحدي بالروح التي لا ترد التحدي بالحقد، بل ترده بالحجة القوية في إطار من المحبة والحنان، لتترك للآخرين مجال التراجع من خلال المحبة، إذا لم يتراجعوا من خلال الفكر، لأن المحبة قد تجلب القلب إلى الحقيقة في الوقت الذي يبتعد فيه الفكر عن مواجهة الحق بوضوح..».( "الحوار في القرآن"، حسين فضل الله ، ص224-225. )

شارك:

0 comments:

إرسال تعليق

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة

أرشيف المدونة الإلكترونية

Blog Archive