التسميات

أثر العولمة على القيم إدريس اوهنا

أثر العولمة على القيم


يقول د. طه عبد الرحمان في تعريف العولمة:
 " وأما التعريف الإجمالي للعولمة، فهو أن العولمة هي السعي إلى تحويل العالم إلى مجال واحد من العلاقات الأخلاقية " (الآفات الخلقية للعولمة، كيف يمكن درؤها؟ عبد الرحمان طه، مجلة المنعطف، ع20، 1423ه/2002م، ص33.)
 يتضح من خلال هذا التعريف للدكتور طه عبد الرحمان أن العولمة في جوهرها هي عملية تنميط للقيم (أي لقواعد السلوك الإنساني، أو للأحكام المعيارية التي توجه السلوك الإنساني لخدمة غايات معينة) في جميع مجتمعات العالم (أي جعل القيم العالمية على نمط واحد هو النمط الغربي). فهو تنميط يروم " اختزال مختلف الثقافات في ثقافة واحدة، عن طريق خلخلة المنظومات القيمية للمجتمعات، والاستعاضة عنها بمنظومة قيم العولمة " منظومة القيم المرجعية في الإسلام، محمد الكتاني، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط2: 1433ه / 2011م، ص 5.) وعلى رأسها الفردانية والمادية واللذة والاستهلاك...على حساب العفة والأمانة والورع والصبر والتقوى والإيثار والإخلاص والاحتساب وغيرها من القيم الأصيلة في ثقافتنا.. مع العلم أن هذا التنميط للقيم لا يحدث بمحض الصدفة – كما يقول د.أحمد العبادي – " و إنما هو محاولة جادة، و استراتيجية محكمة وراءها رموز مؤثرون (فنانون،رياضيون ،إعلاميون، سينمائيون...) مشهورون يسهل التماهي بهم، وعلماء وخبراء في مختلف ميادين المعرفة و خاصة العلوم الإنسانية، و مؤسسات إعلامية كبيرة، و مراكز و شركات سنمائية مختلفة لها متخصصون استراتجيون في مختلف أصناف العلوم الإنسانية، يعملون لتوجيه هذا التنميط وفق أساليب و تقنيات و مقاربات بيداغوجية و منهجية، تستهدف الإنسان في كل مراحل العمر: ( الطفولة، الشباب، المراهقة، الكهولة والشيخوخة). ومما زاد في تأثير هذا المد التنميطي وعزز من فاعليته وقدراته،التطور الهائل في وسائل الاتصال و التواصل، و قدرتها على الاستقطاب نظرا لهندسة برامجها التفاعلية، و سهولة استخدامها من لدن مستخدميها (Accessibilité) " (نفسه، ص6) 
و أما عن الآلية التي توظف في هذا التنميط فهي آلية بسيطة جدا، لكنها فعالة وخطيرة للغاية، و هي آلية التكرار للمشاهدة، أو لسماع ما يعلن ويبث؛ يقول د.محمد العبادي " فقد يقبل الفرد و يقتنع برأي أو فكرة ما ، كان في السابق رافضا لها لأنها منافية لقيمه، لكن عملية التكرار قولا أو مشاهدة، تقلل لديه نسبة الرفض، إلى أن يضحي مستضمرا لقيم كان موقفه منها سلبيا من قبل." ( نفسه، ص7) بعملية تكرار السماع أوالمشاهدة يحصل التطبيع مع المنكر، ويحصل الإلف، والإلف يذهب الإحساس..
 ونتيجة التطبيع النفسي والسلوكي مع القيم الدخيلة، نقع فريسة ما اصطلح عليه د.المسيري بالعلمنة الشاملة للسلوك، وساق له أمثلة كثيرة في اللباس والطعام والجنس والعمل وأوقات الفراغ والسياحة والرياضة وغيرها. ففي معرض حديثه عن العلمنة الشاملة للطعام، على سبيل المثال لا الحصر، يقول: " وبدلا من أن يسأل الإنسان أسئلة تقليدية مثل: هذا الطعام: حلال أم حرام؟ فإنه يسأل في الوقت الحاضر أسئلة حديثة مثل : هذا الطعام لذيذ أم ممجوج؟ أهو صيني أم هندي؟ أيزيد الوزن أم ينقصه؟" (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، مصر، الطبعة الرابعة 2013، ج2 / ص157.)
 و هكذا في جميع مناحي الحياة، يتم غزونا بمعايير وقيم دخيلة علينا، ونتيجة لهذه العلمانية الشاملة والعولمة الكاسحة أصبحنا – في الغالب الأعم- أمام مجتمع مبرمج، وإنسان موجه ذي البعد الواحد، وهو البعد المادي الطبيعي، وهو يتنوع إلى إنسان اقتصادي، لا غاية له إلا تحقيق الربح والمنفعة المادية. وإلى إنسان جسدي غرائزي، لا هم له إلا البحث عن اللذة الحسية، وإرواء الغريزة الجنسية؛ يقول د. المسيري: " والإنسان ذو البعد الواحد نتاج المجتمع الحديث، مجتمع ذي بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية (أي العقل التقني الذي يطرح السؤال الإجرائي: كيف؟ ولا يطرح السؤال الغائي الإنساني: لماذا؟ - مثال: "أوبنهايمر" مكتشف المعادلة التي أدت إلى صنع القنبلة النووية -)، شعاره بسيط جدا هو التقدم العلمي والصناعي والمادي، وتعظيم الإنتاجية المادية، وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك. (ولو على حساب الخراب الروحي والأخلاقي، والأمن الإنساني والسلام العالمي) . 
وتهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج كمية ورياضية. وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه، وترشده وتنمطه وتشيئه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها (متمثلة في صناعة "كائن" ولا أقول "إنسان" مستهلك، غايته الوجودية هي المنفعة المادية واللذة الحسية)."( نفسه ج1/144) وأصبح من الممكن كما يقول د. المسيري" إغواء الإنسان الفرد وإيهامه بأن ما يرغب فيه هو قرار حر نابع من داخله( ولكنه في الحقيقة، أسير مئات الإعلانات التي ولدت الرغبة التي قال لها ذاتية وخلقت عنده الرغبة التلقائية) " ( نفسه ج2/ص31)
 وبهذا أصيبت قيمة الحرية الحقيقية في المقتل، حيث صار الإنسان عبدا لهواه، مملوكا لمهندسي حاجاته المادية( أقصد المؤسسات الرأسمالية المسيطرة على الإنتاج والتوزيع). والحال أن الله تعالى لم يضع الشرائع إلا لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا. ولا حرية حقيقية للإنسان إلا في ظل عبوديته الخالصة لله وحده. وليس ما ذكرناه هو الأثر الوحيد للاكتساح العولمي، بل له نتائج وآثار قيمية أخرى خطيرة. فبدلا من الإحساس بالانتماء إلى الجماعة ( الأسرة والوطن ) صارت الفردانية هي القيمة السائدة، وبسم الحرية الفردية يتم الإخلال بالآداب العامة في المجتمع، ونتيجة الفردية كذلك " يتحول أعضاء الأسرة بالتدريج إلى أفراد مستقلين، لكل حقوقه الكامنة فيه ( حقوق الإنسان ). وتتحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، وتظهر بعد ذلك حقوق المرأة، فحقوق الطفل. وبذا تبدأ الأسرة ( كوحدة متكاملة مبنية على التراحم) في الاختفاء(...) وتتفكك الروابط بين أعضاء الأسرة الواحدة، وتظهر النزعات الفردية المحضة( التي يغذيها قطاع اللذة في المجتمع والفلسفة السائدة فيه) ورغبة كل فرد في أن يحقق استقلاله وذاته ومصلحته ولذته (وأن يجد نفسه) " – العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج2 / ص158 –
 وكنتائج لذلك: 
* ازدياد معدلات الطلاق. 
* بروز ظاهرة هروب الآباء. 
* الخيانة الزوجية. 
* تشرد الأبناء. 
* ظهور أشكال جديدة من الأسر؛
 " فبدلا من الزوج والزوجة ( الأب والأم ) والأطفال، تظهر الأسرة ذات الأب دون أم، أو الأم دون أب، وتسمى أسرة الأب الواحد( لا الأبوين ) ( بالإنجليزية: سنجل بيرنت فاميلي single-parent family (. ثم تظهر أنواع (جديدة) من الأسر لم تعرفها البشرية من قبل؛ فيمكن لأنثيين أن تتبنيا طفلا وتكونا أسرة جديدة كاملة، والشيء نفسه يمكن أن يفعله (رجلان)." – نفسه، ج2 / ص159/160-. وبدلا من الحديث عن حقوق الإنسان وواجباته كذلك، أصبحت الحقوق أساسا هي اللذة الحسية، وبدلا من اقتصاد يهدف إلى سد الحاجات وزيادة الإنتاج، صارت الحاجات تخلق خلقا بوسائل الإعلام والإعلان؛ لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح المادي والتدمير الأخلاقي، وبدل العلاقات التراحمية سادت العلاقات التعاقدية.. ( فبين الزوجين مثلا لم تعد العلاقة في الغالب مبنية ،كما أرادها الشرع أن تكون، على المكارمة والمسامحة، بل صارت مطبوعة بالمشاكسة والمشاحة، حيث غلبت لغة الحق والواجب على لغة المودة والرحمة، وكذلك بين رب العمل والأجير، وبين المسؤول الإداري والموظف العادي...) بالمجمل، وبالتحليل الأخير، فقد تم إهدار إنسانية الإنسان؛ بتدمير القيم الروحية والجمالية والجماعية، لصالح القيم الفردية والمادية.. فصار الإنسان في الحقيقة مسلوب الحرية من حيث يتوهم أنه حر.
 وأختم بنص من كتاب " هويتنا والعولمة " للدكتور عباس الجراري، يقول فيه: " وعلى الرغم من أن طبيعة المرحلة التاريخية اليوم مخالفة، وأن القدرات العلمية والإنتاجية متطورة، وأن الوسائل والأهداف بالتالي متغيرة؛ وعلى الرغم من أننا مطالبون ليس برفض التقدم مقابل الحفاظ على وجودنا- كما كنا نقول من قبل – لأن الاندماج يفرض نفسه، فإن الذي علينا ان نفعله هو أن نختار أي نوع من الاندماج سنسلك سبيله. هل هو اندماج نفيد به من آثار التقدم وما ينتجه الآخر، نستهلكه وندور معه كيفما دار؟ أم هو اندماج نشارك فيه بقدراتنا العلمية والاقتصادية والثقافية، مؤهلين للتبادل والتنافس، في نطاق كيانات أو كيان قوي ومتماسك ومشدود بعرى هوية لها مقومات راسخة وإمكانات إبداعية تجديدية." (هويتنا والعولمة، عباس الجراري، مطبعة الأمنية، الرباط، ص34.)
شارك:

0 comments:

إرسال تعليق

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة

أرشيف المدونة الإلكترونية

Blog Archive