التسميات

العلم: نظرات في المفهوم والوظيفة إدريس أوهنا

العلم: نظرات في المفهوم والوظيفة إدريس أوهنا


https://ouhna.blogspot.com

من المفاهيم التي شابها في زمننا غير قليل من اللبس والزيف والحيف مفهوم العلم، حتى  بات العلم إما اسما مقصورا على المحفوظات والمستودعات من النصوص والمتون – سماوية كانت أم وضعية -، أو مسمى للألقاب والشهادات، أو تكلفا للتقعيرات والتعقيدات، أونزوعا للتنميقات والتزويقات،    أو مجرد رسوم وأشكال ومظاهر ومجاملات، أو آلة لاقتناص الحظوظ وإشباع الأهواء والشهوات، وما إلى ذلك.
فضاعت حقيقته أو التبست، وذهبت آثاره أو اضمحلت، فكانت النتيجة، على المستوى العام، المزيد من التخلف في صفوف الأمة، والمزيد من التراجع في عطاءاتها، والتناقض في ولاءاتها، وعلى المستوى الفردي المزيد من الرسوب والإخفاق في امتحان التدين والتعبد.
لذلك أقول:
إذا كان العلم في اللغة يعني اليقين والمعرفة([1])، وفي اصطلاح العلماء هو"إدراك الشيء على ما هو به"([2])، أو هو"زوال الخفاء من المعلوم، والجهل نقيضه"([3])، فإنه في الاستعمال الشرعي درجة متقدمة عن المعرفة والإدراك وزوال الجهل والخفاء؛ إذ يَشترط فضلا عن ذلك جملة شروط ومحددات دلالية، لا يستقيم مفهومه ولاينضج ولايكتمل بدونها،
 ومنها خشية الله في السر والعلن.. قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء"([4])
وانظر كيف ارتبطت خشية الله تعالى في الآية  بالعلم ارتباط السبب بالمسَبَّب، للدلالة على أن لا خشية بدون علم، وللدلالة كذلك على أن أهم صفات العالم الرباني وأخصَها هي الخشية؛ ولذلك قال الإمام أحمد لابن عبد الله لما سأله عن " معروف "،هل معه من العلم شيء ؟  قال : معه رأس العلم : الخشية .
ومن مقتضيات الخشية وتوابعها، تجريد القصد لله في طلب العلم ونشره، بأن لا يستولي على القلب شيء من الأهواء والحظوظ النفسية، كاللقب، وقصد الشهرة والظهور ونيل الأغراض والأعواض، وحب الرئاسة والزعامة...
وقد عقد الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الصغير حجما العظيم نفعا :   " اقتضاء العلم العمل " بابا سماه: " ذم طلب العلم للمباهاة به والمماراة فيه ونيل الأغراض وأخذ الأعواض عليه " ، وعقد بابا آخر سماه : ذم التفقه لغير العبادة ".
و في بيان السبيل لتجريد القصد من الشوائب المفسدة للأعمال قال الإمام الغزالي – رحمه الله – في "إحياء علوم الدين " :
" كسر حظوظ النفس و قطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب ، فإذ ذاك يتيسر الإخلاص ، و كم من أعمال يتعب الإنسان فيها ، و يظن أنها خالصة لوجه الله و يكون فيها مغرورا لأنه لا يرى وجه الآفة فيها ..."([5])
ثم إن من أبرز المحددات لمفهوم العلم في الإسلام، المجلية لحقيقته، إشفاعَ العلم بالعمل، واقترانَه به، ذلك أن العلم الذي دعا إليه الإسلام ليس معارف نظرية مجردة عن امتداداتها في حياة العالم أو طالب العلم وسلوكاته وأعماله..وحتى عندما يقال : العمل تابع للعلم أو ثمرة له، فهذا لا ينفي كون العمل جزءا  لا يتجزأ من حقيقة العلم ؛ تماما كحديثنا المنفصل عن أغصان الشجرة وثمارها ، فهو لا ينفي ولا يلغي أن تلك الأغصان والثمار هي في الحقيقة جزء لا يتجزأ من حقيقة الشجرة ككل ، ولذلك يستحيل تصور علم بالمفهوم القرآني للكلمة بعيدا عن العمل، وحتى ما كان من المعارف المجردة،كقواعد النحو والأصول، فهي وسائل وليست مقاصد، والمقصود منها لابد أن يكون فعلا أو عملا: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون. ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)
إنها حقيقة عظيمة من حقائق العلم في التصور الإسلامي، تنكشف لكل من تحمل عناء التأمل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجال بنظره في نفائس مصنفات العلماء الراسخين. حتى قال أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري:
كم إلى كم أغدو إلى طلب العل *** م مجدا في جمع ذاك حفيا
طالبا منه كل نوع وفن       ***   وغريب ولست أعمل شيا
وإذا كان طالب العلم لا يع    ***   مل بالعلم كان عبدا شقيا
إنما تنفع العلوم لمن كا     ***      ن بها عاملا وكان تقيا([6])
ولذلك وجدنا الإمام الشاطبي رحمه الله يحد العلم المعتبر شرعا بقوله:
" العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاأعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاقهو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان ، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه والحامل له على قوانينه طوعا أو كرها."( [7]
وسك في ذلك قواعد عجيبات، منها على سبيل التمثيل لا الحصر :
" كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل." ([8])
" كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه."     ( [9])
" كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى."([10])
بل جعل رحمه الله العمل الصالح والقدوة الحسنة معيارا دقيقا للتمييز بين العلماء الحقيقيين الراسخين في العلم، وبين رواة العلم، قال في ذلك:
"فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم ، وإنما هم رواة - والفقه فيما رووا أمر آخر - أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله." ([11])
فتحصل من كلامه رحمة الله عليه أن رواة العلم هم حملة أفكار ومعلومات ومعارف هي عبارة عن ودائع ومحفوظات ومكتسبات ذهنية،  منسوبة إلى العقل أساسا .
أما الراسخون في العلم فهم الذين صارت تلك المعارف والأفكار والمكتسبات العقلية أوصافا ثابتة لهم ،تلامس شغاف قلوبهم، وتنعكس في مواقفهم وأعمالهم وتصرفاتهم . فإذا كانت المعارف والأفكار منسوبة إلى العقل ، فإن الأوصاف منسوبة إلى النفس، وحاملة على العمل والتطبيق .
خاتمة
لا شك أن العلم الممجد في الإسلام، المثنى عليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هو العلم المحدد بالمنظور القرآني، وليس العلم بمفهومه الغربي، الذي نشأ وترعرع بعيدا عن قيم الوحي ومبادئ الدين.. ولا العلم بمفهومه العرفي الفاسد، الذي صار في أغلب صوره الواقعية مفصولا عن الخشية الحقة، والإيمان المؤثر، والقدوة الحسنة، والعمل الصالح الخالص، فصار أصحابه     – لغلبة حظوظ النفس على مقاصد التعبد لديهم- عبئا على الأمة عوض أن يكونوا رافعة نمائها وازدهارها، وكرامتها وعزتها.. إلا من رحم الله تعالى.
إنه العلم بمفهومه الشمولي، القائم على الدليل، المستغرق للخشية والإيمان، المستتبع للعمل والتطبيق، المقتصر على النافع دون الضار، الموصول بالآخرة.
إنه العلم الذي يبني الإنسان بناء تربويا عمليا، تعلو فيه سلطة الأخلاق والقيم على سلطة الأهواء والمصالح الضيقة.
ذاك هو العلم الذي حظ عليه الإسلام حض وجوب، وذكر فضله، ورفع شأنه وشأن حامليه: « قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب». وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




[1]  " (العلم) اليقين يقال علم يعلم إذا تيقن، وجاء بمعنى المعرفة أيضا كما جاءت بمعناه ضمن كل واحد معنى اللآحر لاشتراكهما في كون كل واحد مسبوقا بالجهل لأن العلم وإن حصل من كسب فذلك الكسب مسبوق  بالجهل، وفي التنزيل (مما عرفوا من الحق) أي علموا، وقال تعالى( لا تعلمونهم الله يعلمهم) أي لا تعرفونهم الله يعرفهم، وقال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله        ولكنني عن علم ما في غد عمي
أي: وأعرف..." المصباح المنير، للفيومي، ص254.
[2]  كتاب التعريفات، للجرجاني، ص126.
[3] نفسها.
[4]  فاطر : 28    
[5]  إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، كتاب النية والإخلاص والصدق وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات، ج4، ص401.
[6]  نفسه، ص57.
[7]الموافقات 1/47.
[8]  نفسه، 1/45.
[9] نفسه، 1/41.

[10]  نفسه،41 /1
 [11]   الموافقات  ج1 ص52.

شارك:

0 comments:

إرسال تعليق

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة

أرشيف المدونة الإلكترونية

Blog Archive