آيات وتأملات (2) : موسى وفرعون إدريس أوهنا
قال الله تعالى :
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ. قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ. قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِين. قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } .( سورة الشعراء، الآيات9-34).
يمكن أن نقسم هذا المشهد الحواري إلى فصلين:
أولهما: فصل ما قبل الحوار الفعلي بين موسى وفرعون (من الآية10 إلى الآية15).
والثاني: فصل في إطار الحوار والمناظرة بين موسى وفرعون(من الآية16 إلى الآية35).
أما الفصل الأول فيعتبر مقدمات ضرورية للمناظرة المرتقبة، وبتأمل هذه المقدمات نستخلص ما يلي:
ضرورة امتلاك عناصر القوة، أو – بتعبير آخر- ضرورة الإعداد الكامل قبل الدخول في أية عملية حوارية، تأسيا بموسى عليه السلام في قصته هذه مع فرعون، إذ تمثلت عناصر القوة بالنسبة إليه في أخيه هارون، وفي استجابة الله تعالى لدعائه وحل عقدة لسانه، وكذا في معجزة العصا واليد البيضاء، وهو إعداد تام ومتكامل.
الحرص على انتصار الدعوة والفكرة، لا الحرص على انتصار الذات وظهورها، ذلك أن موسى عليه السلام لما طلب من الله عز وجل أن يرسل معه أخاه هارون كان يخشى على الرسالة أن تتوقف بقتله من لدن فرعون لذلك أراد أن يرافقه هارون حتى إذا قتلوه حمل أعباء الدعوة بعده.
استشعار معونة الله ومعيته من قِبَل الداعية المحاوِر، حتى يقوى على مجابهة المواقف الحرجة، ويتمكن من تجاوز كل العراقيل والصعاب التي قد تعترضه في طريق تبليغ دعوة الحق، وهذا واضح في قوله تعالى لموسى عليه السلام: [ قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون]، وفي ذلك مزيد من الدعم لشرط الثقة بالنفس الذي يعتبر من أهم شروط الحوار الناجح.. الثقة التي تحفظ للأفكار والاجتهادات البشرية نسبيتها، لا الوثوقية الزائدة التي تؤمن بإطلاقية الرأي وتخطِّئ الآراء الأخرى.
أما الفصل الثاني من الحوار حيث المناظرة الفعلية بين موسى وفرعون، فنخرج منه - بعد التأمل والدراسة- بمجموعة من القواعد والخلاصات هي كالآتي:
على المحاوِر أن يدرك طبيعة المحاوَر ونفسيته ويحاوره بناء على ذلك، فموسى عليه السلام في حواره مع فرعون بدأ أول ما بدأ بالعزف على الوتر الحساس بالنسبة لفرعون، أو على العقدة القائمة في نفسه وهي ادعاؤه الربوبية، لذلك خاطبه بقوله: [ إنا رسول رب العالمين ] ، وانظر كيف عبر بصيغة المفرد "رسول" عوض "رسولا" دلالة على وحدة الرسالة، وإن تعدد المرسَل. فمعرفة شخصية المحاوَر إذاً تساعد على ترتيب أولويات الحوار معه، وتحديد ما ينبغي تقديمه ضمن هذه الأولويات وما ينبغي تأخيره، كما تيسر الاهتداء إلى أليق أسلوب في مخاطبته والتواصل معه.
وتأمل معي رد فرعون على موسى عليه السلام عندما خاطبه بقوله: [ إنا رسول رب العالمين ]، قال: [ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ]، فعوض أن يطلب من موسى إقامة الدليل على دعواه بأن هناك ربا للعالمين، سارع إلى إبطال هذه الدعوى بطريق الطعن والتكذيب.. وهذا ما يعرف في أدبيات المناظرة بـ"الغصب"؛ وهو من الأمور التي لا يجوز للمناظر أن يرتكبها في المناظرة. قال حبنكة الميداني في تعريف الغصب وبيانه: «الغصب: هو أخذ المناظر وظيفة الاستدلال على بطلان دعوى للخصم، قبل أن يترك له فرصة إقامة الدليل عليها.
فكل ما صح للسائل أن يمنعه (أي:أن يطلب من المعلِّلِ إقامة الدليل عليه) فإن استدلاله على بطلانه غصب ممنوع، فإذا أقام السائل الدليلَ على إبطال الدعوى التي قدمها المعلل، قبل أن يسمح له بإقامة الدليل على صحة دعواه، فهو غاصب لحق خصمه. وكذلك إذا أقام السائل الدليل على إبطال مقدمة من مقدمات دليل المعلِّل، قبل أن يسمح له بإقامة الدليل على صحة هذه المقدمة فهو غاصب لحق خصمه، ومقدمات الدليل لا تخرج عن كونها دعاوى قابلة للمنع». (ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، ص452)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن في قول فرعون [ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ] مغالطة وهي من نوع المغالطات الناشئة عن "تجاهل المطلوب" (نفسه، ص309) ؛ «ويتحقق هذا بالهروب من الاستدلال على المدعَى، إلى إقامة الدليل على غيره مما يلتبس به، للإيهام بأن المستدل قد قدم الدليل على المطلوب» (نفسه، ص309)، ومنه: «هروب المغالِط من إقامة الحجة على المدعى، إلى الطعن في شخص خصمه، وهذا في حقيقته هروب من منهج الحجة إلى بذاءة الشتائم» (نفسه، ص309). وهذا ما فعله فرعون ليغطي عن ضَعف حجته، حيث لجأ إلى الطعن في شخص موسى عليه السلام، وهي طريقة مذمومة في الحوار والمناظرة.. لكن كيف كان رد موسى عليه السلام على فرعون لما عيره بقتل النفس، قال: [ فعلتها إذاً وأنا من الضالين ]، وهذا يحيلنا على أدب رفيع في الحوار والمناظرة وهو الإقرار بالخطأ من غير مكابرة ولا معاندة، وكما يقول مصطفى العدوي في كتابه "أدب التخاطب": «فاعترافك وإقرارك بالخطأ لا يجعل لخصمك عليك سبيل، ثم إنه يوقف الجدل في باب قد يُفتح ويستمر، ثم إنك قد تلتمس عفو الناس بعد عفو الله بإقرارك بالخطأ واعترافك به».("أدب التخاطب"، ص123)
كما أننا نستفيد من رد موسى عليه السلام على فـرعون لما سألـه : [ ما رب العالمين ] ؟ – وأداة الاستفهام "ما" هنا تدل على أنه طلب معرفة حقيقة الرب- فقال موسى:[ رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ]، أن الذي يجب أن يحكمنا في حواراتنا مع الآخرين هو البعد المقاصدي، فنقف عند حدود ما فيه مصلحة أو من ورائه فائدة، ونصرف الإجابة إلى هذا الاتجاه تجنبا للجدال العقيم، وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع من سألوه عن الأهلة: ظهورها، ونموها، وتناقصها، ما بالها تصنع هذا؟ فوجهه الله تعالى إلى صرف الإجابة إلى ما هو أهم وعملي في حياتهم بقوله: [ قل هي مواقيت للناس والحج ].
ثم تأمل معي قول فرعون: [ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ]؛ إنها دعوى تحمل في طياتها تناقضا وتعارضا صريحين، إذ كيف يستقيم أن يكون موسى رسولا ومجنونا في الوقت ذاته.. ومنطق العقل السليم يجزم أن من شروط الرسول أن يكون عاقلا فطنا؟!
«ونظير ذلك قول فرعون عن موسى عليه السلام حينما جاءه بسلطان مبين من الحجج الدامغة والآيات الباهرات: [ ساحر أو مجنون ]. وقد قص الله علينا ذلك بقوله في سورة (الذاريات51): [ وَفِي مُوسَى إِذ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَو مَجْنُون(39) ].
وهذان أمران يكادان يكونان متضادين، فمن غير المقبول منطقيا أن يكون الشخص الواحد ذو الصفات الواحدة، مترددا بين كونه ساحرا وكونه مجنونا، وذلك لأن من شأن الساحر أن يكون كثير الفطنة والذكاء والدهاء، وهذا أمر يتنافى مع الجنون تنافيا كليا، فكيف صح في فكر فرعون هذا الترديد بين كون موسى ساحرا وكونه مجنونا؟ إن في كلامه هذا لتهافتا ظاهرا يسقطه من الاعتبار لدى المناظرة، فهو لا يستحق عليه جوابا، وهو يُشعر بأن فرعون يتهرب من منطق الحق، ويطلق عبارة يغشي بها على الملأ من حوله، حتى لا يفتضح أمامهم بانتصار موسى عليه بالحجة».( ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، ص368)
أضف إلى ذلك أن ما احتج به فرعون على موسى عليه السلام: [ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ]، هو من قبيل ما أدرجه حبنكة الميداني في تصنيفه للحجج تحت مسمى "الحجة الباطلة"، بل هو من نوع الحجة الباطلة القائمة على المغالطة لا على الغلط؛ يقول: «وإذا كانت مقدمات الحجة قائمة على خطأ مقصود مغلف بما يوهم أنه حق، من أجل التمويه والتضليل، فهي (مغالطة) من المغالطات، والغرض منها إبطال الحقائق؛ ويصطنعها أهل الباطل، وهي محرمة في الإسلام».( نفسه، ص304)
لما قال فرعون عن موسى عليه السلام: [ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ]، أجاب موسى قائلا: [ رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ]. ولابد هنا لكل ذي عقل من الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول: أن موسى عليه السلام لم يثنه ولم يصرفه استهزاء فرعون وسخريته وتهديده عن هدفه المنشود، وهو بيان الحق والانتصار للدعوة، لذلك لم ينفعل ولم يتوتر من بداية الحوار إلى نهايته، وعندما اتهمه فرعون بالجنون رد ببساطة وهدوء: [ قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ]، وهذا خُـلُق أساس، وتقنية رائعة في الحوار أن يتحلى المحاور بالأناة وربط الجأش، حتى لا يتم العدول عن الموضوع الرئيسي للحوار إلى معارك هامشية، كما يلوح جليا من خلال ردود موسى عليه السلام على استفزازات فرعون.
وهذا هود عليه السلام عندما قصد قومه إهانته بقولهم: [ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ]، أجاب متمسكا بالموضوع الأصلي في دعوته ورسالته: [ إنّي أُشْهِدُ الله وَاشْهَدُوا أنّـي بَرِئ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِه ].
والطريقة ذاتها سلكها نوح عليه السلام قبل موسى وهود عليهما السلام لما خاطبه قومه قائلين:[ مَا نَرَاكَ إلاّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الذينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي. وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين ]، فلم يغضب ولم يثر ولم يرد الصاع صاعين وإنما أجاب بهدوء: [ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَايْتُم إن كُنْتُ على بَيِّنَةٍ من رَّبِّي وآتَاني رَحْمَةٍ مِن عِندِهِ فَعَمِيَتْ عليكم أَنُلْزِمُكُمُوها وأنتُم لها كارِهُون ].
الأمر الثاني: تلك الإشارة اللطيفة في قول موسى عليه السلام: [ إن كُنتُمْ تعقلون ]، فهي تستبطن ردا مناسبا على اتهام فرعون له بالجنون: [ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ]، وفي الوقت ذاته تختزن أدبا جما في الرد على المستفز. ثم إن هذه اللمحة السريعة والإشارة اللطيفة جاءت بعد استمرار عزف موسى عليه السلام على الإيقاع نفسه في إثبات الربوبية لله وحده ونزعها عمن سواه وهو الموضوع الأصلي في حواره مع فرعون، مما يميط اللثام عن تقنية أخرى في الحوار لا تقل روعة وأهمية وتتمثل في مراعاة موقف المحاوَر وأخذه بعين الاعتبار أثناء محاورته ومراجعته، دون إغفال الموضوع الأصلي للحوار طبعا. لأننا إذا أغفلنا الموضوع الأصلي في الحوار وانسقنا مع الهوامش والجزئيات التي قد يثيرها المحاوَر بقصد أو بغير قصد نكون قد ضيعنا القصد الأصلي من الحوار وضللنا السبيل في متاهات لا قيمة لها ولا نهاية، وفتحنا على أنفسنا جبهات نحن في غنى عنها. كما أننا إذا لم نبال بما يثيره الآخر وعشنا في غربة تامة عما يطرحه، ولو على سبيل استفزازنا وصرفنا عن جوهر النقاش والحوار، نكون أشبه بمن يحاور نفسه، وقد يفهم ذلك على أنه عجز وضعف. فالمسألة إذا تحتاج إلى أن توضع في ميزان دقيق يحفظ لها توازنها بين التركيز على الموضوع الأصلي في الحوار أو ما يعبر عنه بمحل النـزاع مع الأخذ بعين الاعتبار ما يصدر عن الطرف المحاوَر وحُسن توظيفه –وإن كان هامشيا- في اتجاه خدمة الموضوع الأصلي متى أمكن ذلك على أن لا يصبح طاغيا ومهيمنا على أجواء الحوار.
فالمزاوجة إذا بين التركيز على القصد الأصلي من فتح باب الحوار مع الآخر، مع التفاعل مع منطوقه وإقامة الاعتبار لاعتراضاته وحسن التعامل معها من أهم تقنيات الحوار والتواصل الناجحين.
انظر كذلك إلى قول فرعون [ لَإِنْ اتَّخذتَ إلهاً غيري لأجعلنَّكَ مِنَ المسجونين ]، وانظر إلى ما قابل به الآيات الباهرة التي ظهرت على يد موسى عليه السلام في الأخير حيث [ قال للملأ حَوْلَهُ إن هذا لَساحِرٌ عليم. يريد أن يخرجكم مِن أرْضِكُم بِسِحْرِه فماذا تامرون ]. إنه مسلك آخر من المسالك الفاسدة في المناظرة، ويُعرف هذا المسلك عند أهل هذا الفن بـ"المكابرة"، وقد تناولها حبنكة الميداني في "ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة" بالتعريف قائلا: «المكابرة: هي المنازعة لا لإظهار الصواب، ولا لإلزام الخصم، ولكن لإظهار الفضل.
فمن المكابرة منع البديهيات وعدم التسليم بها. ومن المكابرة عدم التسليم بالتصديقات النظرية التي أقام المعلل عليها دليلا صحيحا لا يتطرق إليه الخلل بوجه من الوجوه. ومن المكابرة منع الدليل جملة واحدة، أو منع مقدمة غير معينة منه. ومن المكابرة نقض دليل بلا شاهد.
والمكابرة وظيفة مردودة لا تسمع ولا تقبل، والمكابر يحكم على نفسه بالهزيمة في حلبة المناظرة».( "ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة"، ص454 ).
من أهم التقنيات المستفادة أيضا من هذا الحوار: التدرج في إقامة الدليل والحجة، وعدم إدراج كل البراهين والحجج دفعة واحدة، بل الاقتصار على الضروري منها حسبما يتطلبه الموقف وتقتضيه الحاجة إلى البيان والإقناع أو الرد، فهذا موسى عليه السلام ترك أمر معجزاته جانبا ولم يظهرها إلا في الوقت المناسب عندما هدده فرعون بالسجن. وهذه التقنية في الحوار تنسجم تماما مع الحكمة التي تقول: "ليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال حان وقته، وليس كل ما حان وقته حضر أهله".
الإبلاغ في إقامة الحجة، فقد رأيت كيف عدد موسى عليه السلام البراهين والحجج، وفصلها تفصيلا، فمن حجج قولية تستند إلى قواعد التفكير القويم، ومنطق العقل السليم، إلى أخرى حسية وملموسة لم يقتصر فيها على معجزة العصا بل أتبعها بمعجزة اليد التي أخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين.. وهو أسلوب بديع في الحجاج خصوصا إذا كان المحاوَر عنيدا مكابرا. ويكفي أن سالك هذا الأسلوب قد تأسى بالله سبحانه وتعالى الذي أبلغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق، فأنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه، وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية.
ومن ثمار هذا الأسلوب إقناع الطرف المحاوَر، أو كشف عناده وتعنته: [ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِىَ عَنْ بَيِّنَة وإنّ الله لَسَميعٌ عليم ].
«الإيمان العميق بأن الإنسان مهما طغى وتجبر وابتعد عن الله فإنه يظل متحسسا لدعوات الحق ومعاني الخير من خلال الدوافع الخيرة المنطلقة من فطرة الله التي فطر الناس عليها، الراقدة في أعماقه، المستيقظة –في بعض الحالات- على صوت خير، وكلمة حلوة، تنفتح عليها الروح في حالة الهدوء والتأمل.. ولذا فإن علينا أن نلقي إلى كل إنسان –مهما كانت درجة انحرافه- بالكلمة الحلوة والصوت الخير المملوء بالمحبة، فربما يلتقيان بالجو الروحي الهادئ الذي يكون منفتحا على الهداية من خلال ذلك كله... وربما كان هذا هو السر في التوجيه الإلهي لموسى وهارون أن يتحدثا –مع فرعون- بالقول اللين، أملا في أن يتذكر بتذكيره بمعاني الخير، وفي أن يخشى بتخويفه من المصير المظلم الذي يستقبله عند الله إذا استمر في طريقه المنحرف في أجواء الضلال». ( "الحوار في القرآن" ، حسين فضل الله، ص270).
الحوار قد يستفيد منه غير المعني به أو الموجه إليه مباشرة –كما هو الشأن بالنسبة لمن آمن مع موسى عليه السلام ومنهم السحرة- الشيء الذي يبعث الداعية على التفاؤل دائما وعدم الاستسلام لليأس، مهما تكن النتائج الظاهرة للحوار، مادام القصد هو الله تعالى، ونصرة الحق. والثابت أن الله تعالى لا يضيع عمل المخلصين المجتهدين في تحري الشرع، لا من حيث إظهار عملهم في الدنيا والتمكين لطريقتهم، ولا من حيث مكافأتهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون.
0 comments:
إرسال تعليق