الحوار في إطار السؤال
نص الانطلاق:
قال الله تعالى:
تحليل
وتعليق:
«تقول بعض الروايات: إن النبي (ص) سُئل ذلك السؤال الذي أسلفناه عن الأهلة:
ظهورها ونموها وتناقصها، ما بالها تصنع هذا؟ وتقول بعض الروايات: إنهم قالوا: يا
رسول الله لم خُلقت الأهلة؟ وقد يكون هذا السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة
الجواب، فقال الله للنبي (ص): ]قل
هي مواقيت للناس والحج[.
مواقيت الناس في حلهم وإحرامهم، وفي صومهم وفطرهم، وفي نكاحهم وطلاقهم
وعدتهم، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم.. وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء.
وسواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني، فهو في كلتا
الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري، وحدثهم عن وظيفة
الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم، وهي
داخلة في مدلول السؤال: ما بال القمر يبدو هلالا.. إلخ. كذلك لم يحدثهم عن وظيفة
القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية، وهي داخلة في مضمون
السؤال: لماذا خلق الله الأهلة؟»([2]).
ويُستفاد من ذلك:
أن على المسلم
المحاور أن يتسع صدره لأي سؤال -كيفما كان نوعه قد يرد على لسان الآخرين- ويعرف
جيدا كيف يتعامل مع الجواب بالشكل الذي يتحقق به الفهم، وتتحصل الفائدة والمصلحة،
بعيدا عن الجدال العقيم.. «وقد نستطيع إرجاع الكثير من أسباب التخلف الفكري الذي
يعاني منه المسلمون في وعيهم للإسلام، إلى هذا الأسلوب الجامد الذي يسير عليه
الممثلون الرسميون للدين.. عندما يغلقون على الإنسان المسلم باب المعرفة الدينية
من أوسع مجال.. ومما يزيد الموضوع كآبة وغرابة أن بعض هؤلاء يفرضون الإيمان الذي
يتصف به المؤمن، قوة فكرية إلهامية تمنحه القدرة على إزالة كل الشبهات، وحل كل
المعضلات، ومواجهة كل التحديات التي تتوجه للعقيدة والإيمان.. ولذا فإنهم لا
يسمحون للإنسان أن يتحدث عن نوازع شكه، وعوامله، ولا يعطونه الحرية على أن يناقش
الفكر والعقيدة والتعليمات بحجة أن المؤمن لا ينبغي له أن يسأل عن هذا وعن ذاك..
لأن هذه الأسئلة "هرطقة" و"كفر" و"زندقة" مما يوحي
للمؤمن بالهرب من السؤال ليبقى مترددا في أعماقه، حيث يجره إلى مزيد من الحيرة
والارتباك والتعقيد، أو إلى مزيد من الشك أو الكفر أو الإلحاد. وهذا ما لم نلمحه
في أساليب القرآن مع الكفار.. أو المؤمنين، أو في أساليب النبي محمد (ص) مع أتباعه
من المؤمنين، فقد جاء في السيرة النبوية الشريفة أن رجلا جاء إلى النبي (ص) فقال
له: لقد هلكت يا رسول الله، فعرف النبي مشكلته، فقال له: جاءك الخبيث فقال لك من
خلقك فقلت الله فقال من خلق الله: قال الرجل إي والله يا رسول الله... فقد عاش
الإنسان الحيرة المدمرة من خلال هذا الخاطر، حتى لقد خيل إليه أنه هلك وانتهى من
ناحية إيمانية.. وكان الموقف النبوي منسجما مع خط الرسالة التي تعمل على تبديد
الشك وإزالة الحيرة ومعالجة الحالة المعقدة.. حتى قال له في نهاية المطاف -وهو
يحدثه عن هذه المشاعر الخائفة- إن هذا محض الإيمان.. ليُحَوّل الموقف من السلبية
إلى الإيجابية، ومن الخوف والحيرة إلى الأمن والطمأنينة..»([3]).
وما ذهب إليه العلامة
حسين فضل الله هنا على وجاهته لا ينفي كراهية السؤال في مواضع معينة؛ كالسؤال عما
لا ينفع، أو السؤال بقصد تعنيت المحاور وتعجيزه بشرائر المسائل وصعابها؛ قال الحسن
البصري رضي الله عنه: "إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل يعنتون بها عباد الله"([4])، وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة
العلم ألقى على لسانه الأغاليط"([5]).. وقد ذكر الإمام
الشاطبي رحمه الله إلى جانب هذين الوجهين ثمانية أوجه أخرى يُكرَه فيها السؤال وهي
بنوع من الاختصار:
- أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج أكل عام؟ مع أن
قوله تعالى: ]ولله على الناس
حج البيت[ [آل عمران:97] قاض بظاهره أنه للأبد، لإطلاقه. ومثله سؤال بني
إسرائيل بعد قوله: ]إن
الله يامركم أن تذبحوا بقرة[ [البقرة:67].
- السؤال من غير احتياج إليه في الوقت.
- أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى.
- أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق؛ وعلى ذلك يدل قوله تعالى: ]قل
ما أسألكم عليه من اجر وما أنا من المتكلفين[ [ص:86].
- أن يظهر من السؤال
معارضة الكتاب والسنة بالرأي.
- السؤال عن
المتشابهات؛ وعلى ذلك يدل قوله تعالى: ]فأما
الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه[ [آل عمران:7] الآية!... ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن
الاستواء. فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.
- السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سُئل عمر ابن عبد العزيز
عن قتال أهل صِفِّين، فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن يُلطخ بها
لساني.
- سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. وفي القرآن في ذم
نحو هذا ]ومن الناس من
يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام[ [البقرة:204]. وقال: ]بل
هم قوم خصمون[ [الزخرف:58]، وفي الحديث: "أبغض الرجال الألد الخصم"([6])»([7]).
بعد إيراد الإمام الشاطبي لهذه المواضع، قال رحمه الله: «هذه جملة من
المواضع التي يُكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدا بل
فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يَخِفُّ، ومنها ما يُحرَّم، ومنها ما يكون محل
اجتهاد»([8]).
وإذا كان الخطاب القرآني قد احتفى احتفاء كبيرا بالحوار في إطار السؤال،
إما بغرض التنبيه، أو التشويق، أو الإنكار، أو التعجيز، أو غيرها من الأغراض..
والشيء نفسه يقال عن السنة النبوية .. فإن ممن اعتنوا قديما بهذه الطريقة أيضا،
الفيلسوف اليوناني المعروف سقراط حيث «كان يستعمل تلك الطريقة مع غيره متظاهرا
بالجهل، ليرشد المتعلم حتى يصل إلى الحقيقة، بعد الأخذ والعطاء، والسؤال والجواب،
في وقت بلغت فيه التربية العقلية في (أثينا) المركز الأسمى من العناية بها،
والتفكير فيها. وقد كان غرضه بث المعلومات في نفوس تلاميذه، وتعويدهم البحث وراء
الحقيقة؛ حبا للحقيقة»([9]).
«ومن الأسباب التي دعت (سقراط) إلى الحوار والنقاش ما رآه من تسرع
الإنسان عادة إلى ذكر الأحكام والقواعد قبل الاستقراء التام، والفحص الكامل،
وتساهله في استعمال الكلمات والألفاظ قبل التحقق من معرفة معناها. فكان الغرض
الرئيسي لسقراط من الحوار إزالة الأوهام من عقول الرجال، والتخلص من العقبات التي
كانت تقف في سبيل العلم والتعليم، وإرشادهم إلى أحسن الوسائل في التفكير والحكم
والتعليل، وكسب المعلومات والمعارف، والانتفاع بها انتفاعا حقا. فطريقته في
الأسئلة كانت تشجع على البحث والتنقيب، والتفكير، وتهذيب قوى سامعيه»([10]).
وإليك مقتطف من محاورة بين "سقراط" وتلميذ له يدعى
"يوثيديمَس" كان يحب أن يصير فيلسوفا كبيرا:
"سقراط: أليس من الواجب أن نفرق في المعاملة بين الأصدقاء
والأعداء، فمع الأصدقاء يجب أن نلتزم الصراحة والإخلاص؟
يوثيديمس: نعم يجب أن نفرق بين هؤلاء وهؤلاء يا "سقراط".
س: إذا رأى القائد أن شجاعة جنوده
أخذت في النقص، فأوهمهم أن هناك معونة جديدة آتية إليهم، وبهذه الوسيلة أزال ما في
نفوسهم من المخاوف. فإلى أي قسم تَنسُب هذا الخداع؟
ي: أنسبه إلى قسم العدالة على ما
أظن.
س: لو رفض طفل الدواء الذي تتطلبه
حالته الصحية، فخدعه أبوه وأعطاه الدواء بشكل طعام، فأين تضع هذا الغش يا
"يوثيديمَس"؟
ي: أظن أننا نضعه في قسم العدالة.
س: هب رجلا بلغ منتهى اليأس
والقنوط، فحاول أن ينتحر ويقتل نفسه بالسيف، فأتى صديق له، وأخذه منه بشدة. فإلى
أي قسم ينسب هذا العنف؟
ي: أظن أن هذا العنف ينسب إلى قسم
العدالة، ويتضح لي أن الصديق لم يخطئ في تصرفه.
س: قد اتفقنا من قبل على أنه يجب
أن نعامل أصدقاءنا بكل صراحة وإخلاص، ولكن يظهر من أجوبتك أنه يجب أن لا نعامل
أصدقاءنا دائما بكل صدق وإخلاص.
ي: من الواضح أنه يجب ألا نخلص
لهم دائما. وإني أعدل عن قولي السابق، لو سُمح لي بذلك.
س: بكل تأكيد، إن الرجوع إلى الحق
خير من التمادي في الباطل. ومن الواجب أن نختبر كل شيء يعرض لنا بدقة.."([11]).
يقول الأبراشي معلقا على هذا الحوار بين سقراط وتلميذه: «هذا مثل من
الأسئلة "السقراطية"، والحوار "السقراطي". وبالحوار بهذه
الطريقة كان "سقراط" يقود تلميذه ويشوقه الى البحث والاستقصاء؛ للوصول
إلى الحقيقة، فكان يُرِي تلميذه ان هناك صعوبات مستترة في كثير من الأشياء التي
تبدو لنا سهلة عند عرضها علينا، وأن للقضايا العامة -التي يمكن تصديقها والموافقة
عليها- استثناءات وشروطا خاصة، وأنه ليس من الحكمة أن نحكم على تلك الأشياء حكما
عاما قبل أن نعرفها حق المعرفة، ونختبرها بكل عناية ودقة.
هذه المبادئ التي كان يفكر فيها "سقراط" من الأمور الضرورية
للتربية العقلية»([12]). ما يؤكد أن للحوار على المستوى التربوي والتعليمي اعتمادا على تقنية
السؤال وغيرها، أهدافا وفوائد غاية في الأهمية نذكر منها:
- صقل مهارة التعبير
والتخاطب اللغوي وبتعبير آخر: إتقان فنون القول.
- اكتساب القدرة على
تجميع الأفكار وترتيبها واستدعائها عند الحاجة.
- اكتساب مهارة
استخدام الأدلة والحجج.
- تنمية مهارات
النقد والتحليل والتفسير والتعليل والربط والمقارنة والاستنباط والاستنتاج.
- جعل عملية التعلم
أكثر رسوخا.
- تعميق
النظر في دراسة القضايا.
- قبول الرأي
الآخر والتمرس على تنظيم عملية الاختلاف والتأدب بآدابه.
- اكتساب فن
الإنصات والاستماع.
- امتلاك
القدرة على التأثير والإقناع.
- إتاحة فرصة
التعلم من الآخرين.
- القدرة على
التواصل والتفاعل الإنساني.
- اكتساب
القدرة على الإبداع وإنتاج المعرفة وتوظيفه
2- يستفاد من نص الانطلاق أيضا أن الحوار والنقاش في الوقت الحاضر يجب أن
يرتكز على أمور جوهرية كلية، وأمور مفاهيمية تصورية، وأمور منهجية تقويمية، وأمور
إجرائية عملية، فلا نضيع الوقت فيما لا يصلح شؤون حياتنا، ولا يعدل من منهج
سيرنا.. وهذا ما يمليه علينا الفكر المقاصدي الذي ينبغي أن نتسلح به، ونستحضره في
حواراتنا مع الآخرين، باعتبارنا حملة مشروع حضاري ضخم وعظيم.
إننا نرى اليوم كثيرا من المسلمين في عمليات حوارية لا يعرفون ماذا يقدمون
وماذا يؤخرون، مما يطرحنا أمام تحد موضوعي، يتمثل في ضرورة إعادة ترتيب العقل
المسلم وفق سلم أولويات واضحة من شأنها أن تدفع بمشروعنا الحضاري الإنساني خطوات
نحو الأمام، بعيدا عن السفاسف التي تجعلنا دائما مشدودين إلى الوراء.
0 comments:
إرسال تعليق