آيات وتأملات
حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه
قال
الله تعالى:
]وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.إِذْ قَالَ
لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا.يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدْ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا.يَا أَبَتِ إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ
وَلِيًّا.قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ
تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا.وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ
رَبِّي شَقِيًّا[.-
مريم/40،48-
أول ما يستوقف المتأمل في حوار إبراهيم عليه
السلام مع أبيه، الطريقة التي سلكها إبراهيم في محاولة إقناع أبيه، وجعله يرتد إلى
الرشد والصواب.. ذلك أنه حاكمه إلى مقدمات مسلمة، وأدلة يقر بها ولا يستطيع دفعها:
]يا أبت لم تعبد
ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا[.
فهل يستطيع آزر أن يدحض هذه المقدمات بإثبات السمع والبصر والقدرة لما
يعبده وقومه من أصنام؟؟ إنه لا يسعه -أمام استحالة ذلك- إلا أن يقر بالكلام الفصل
الذي صدر على لسان ابنه إبراهيم عليه السلام.. وإقرارُه به يقوده -لو ترك المعاندة
والمكابرة جانبا- إلى الإعراض عن عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا..
فنعم الطريقة هي في محاورة المخالف وإقناعه، إذا أُحسن توظيفها وتنزيلها،
بحيث تكون مقدمات الدعوى مما تُسلِّم به العقول وتقبله، لا أن تكون مسلمة عند
صاحبها فحسب.
يستفاد من هذا
الحوار أيضا ضرورة التركيز في محاورة الضالين وإرشاد الغافلين على الهدف من خلق
الإنسان في هذا الوجود، والمقصد الأول من بعثة الرسل والأنبياء؛ وهو عبادة الله
تعالى. كما هو واضح من خلال ما استهل إبراهيم عليه السلام به الحوار مع أبيه ]إذ
قال لأبيه يا أبت لما تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا[ وهو ما نجده بقليل من التأمل مطردا في دعوة
الرسل جميعا؛ قال الله تعالى في حق نبيه نوح عليه السلام: ]ولقد
أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب
يوم أليم[.-هود/25،26-
وقال تعالى بشأن رسوله هود عليه السلام: ]وإلى
عاد أخاهم هودا. قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. إن انتم إلا مفترون[.-هود/50-
وقال تعالى بخصوص صالح عليه السلام: ]وإلى
ثمود أخاهم صالحا. قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. هو أنشأكم من الارض
واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه. إن ربي قريب مجيب[.-هود/60-
وقال تعالى عن رسوله شعيب عليه السلام: ]وإلى
مدين أخاهم شعيبا. قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. ولا تنقصوا المكيال
والميزان. إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط[.- هود/83-
وهذه مسألة أساسية وجوهرية ينبغي أن يتنبه إليها الدعاة في حواراتهم
الدعوية؛ إذ الصلاح كل الصلاح يقوم على عبادة الله تعالى، والطلاح كل الطلاح ينشأ
عن تعطيل هذه العبادة.
إن المرتكز الأساس
الذي ارتكز عليه إبراهيم عليه السلام في حواره مع أبيه ومحاولة إقناعه هو العلم: ]يا
أبت إني قد جاءني من العلم ما لم ياتك فاتبعني أهدك صراطا سويا[ ، وفي ذلك تأكيد على أهمية "العلم"
في الحوار.
كما أنه يحيلنا على أدب مهم جدا وتقنية رائعة في الحوار وهي: تقديم الحجة
بين يدي الطلب.. فانظر كيف طلب إبراهيم عليه السلام من أبيه أن يتّبِعَه،
وتوسل بين يدي طلبه بالعلم الذي جاءه، وفي ذلك تحفيز للمحاوَر من أجل الاستجابة
والإذعان للحق، عندما يستبين قوة الحجة ونصاعة الفكرة.
وفي زمن كاد أن
ينتفي فيه الجو الحواري داخل الأسرة، وارتفعت فيه نسبة العقوق.. تأتي هذه الآيات
لتطلعنا على إبراهيم عليه السلام وهو يحاور أباه بمحبة وهدوء ورقة وأدب.. ومهما
يكن رد فعل الأب شنيعا وقاسيا يبقى موقف إبراهيم عليه السلام ثابتا، وطريقته في
مراجعة أبيه هي طريقته: حب ورأفة وحنان.. وهذا درس بطبيعة الحال نستلهم منه كيف
ينبغي أن يكون الحوار -في الوقت الحاضر- داخل الأسرة بين الأبناء والآباء في جو
من الألفة والمحبة والاحترام، دون انفعال أو توتر، بغض النظر عن أهمية أو
تفاهة الموضوع مناط الحوار والاختلاف.
وهذه التقنية الحوارية تعتبر قاعدة عامة في كل العمليات الحوارية لأنه «كم
من حالات تحاورية تدهورت وفشلت بسبب أن نبرة صوت المتحاوِر كانت حادة عندما ذكر
شيئا يتسم بنوع من الحساسية الخاصة لطرف الحوار الآخر، وهناك حالات أخرى أدت فيها
تقلصات وجه المتحدث، وحركة يده إلى ترك انطباع لدى أحد أطراف الحوار بأن أحد
المتحاورين يتكلم بأسلوب يشبه أسلوب التهديد والتحدي والعداء والاستهتار بالآخر،
وفي أحيان أخرى كان إيقاع المتحدث سريعا وحماسيا، فتصور الطرف الآخر أن المتحدث
منفعل ويريد أن يستأثر بالحوار، هذا في الوقت الذي ثبت فيه بالدراسة أن هذه
الحالات كانت لا إرادية، ولم يقصد المتحاورون أي عداء أو تهديد أو جفاء أو استهتار
أو استئثار بالحديث، ولكنهم لا يشعرون بوقع ما يقومون به على الآخرين وحجم الإزعاج
الذي يتسببون فيه لغيرهم».
(مجاة الفيصل، عدد188، ص25)
إن التفكير العميق والتعبير الهادئ هو الوسيلة الناجعة في أي حوار، «أما
المهاترة والمنافرة فأمر تستخدم فيه اللغة أداة صوتية للصراخ حيث تقف قنوات العقل،
وتبدأ الحبال الصوتية في الارتفاع ارتفاعا يتماشى بشكل عكسي مع ضعف الحجة. عندها
ربما امتدت الكف أو العصا فيتوقف العقل عن الكلام، ويصبح المتحاوران أطرشين
يتكلمان بلغتين لأنهما كما قال الشاعر:
سـارت مشرقـة وسـرت مغـربا // شتـان بيـن مشـرق ومـغـرب». (نفسه، ص8)
وهو ما يسميه أهل فن المناظرة بـ"المعاندة"، وتعني في اصطلاحهم:
«المنازعة بين شخصين لا يفهم أحدهما كلام صاحبه، وهو يعلم ما في كلام نفسه من
الفساد ومجانبة الصواب.
والمعاندة في المناظرة عمل لا يجوز».( ضوابط المعرفة
وأصول الاستدلال والمناظرة، ص454)
نستفيد من هذا
الحوار البديع أيضا كيف أن أدب إبراهيم عليه السلام مع أبيه، وهو يحاوره، لم ينسه
أولوية آصرة العقيدة على آصرة القرابة؛ عندما تمادى أبوه في الغي والضلال، وأبى
إلا أن يستمر على دين آبائه الباطل؛ قال: ]وأعتزلكم
وما تدعون من دون الله[، وفي سورة الزخرف: ]
وإذ قال إبراهيم لآبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين[ - الزخرف/26،27-، وفي سورة التوبة: ]
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. إن إبراهيم لأواه حليم[ - التوبة/144-.
فالانفتاح على الآخر
في الحوار، على ضرورته، لا يعني التنازل عن الانتماء العقدي ومقوم الدين والإيمان،
بل بالعكس. قال تعالى: ]لَا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[ - الحشر/21-، ولنا عبرة في قصة نوح عليه
السلام مع ابنه، ولوط عليه السلام مع زوجته، وآسية بنت مزاحم مع زوجها فرعون،
ومحمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي لهب، ومصعب بن عمير مع أمه...
فالمعاملة الكريمة
للأقارب ومحاورتهم بالتي هي أحسن لا تعني أبدا طاعتهم في معصية الله تعالى حتى وإن
كانوا آباءً، قال تعالى: ]وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ - العنكبوت/7-.
وإذا كان الحوار مع
الأقارب المعادين للدين، يُشترط
فيه ألا يُقَدِّم المحاور الملتزم تنازلات تضر بدينه
وعقيدته، فمن باب أولى أن يكون ذلك مع المخالفين والمعادين للدين من غير الأقارب.
0 comments:
إرسال تعليق