حوار إبراهيم عليه السلام مع نفسه
نص الانطلاق:
قال
الله تعالى:
]وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ
الْمُوقِنِينَ.فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ.فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[([1]).
تدبر ونظر:
حوار إبراهيم عليه
السلام مع نفسه في هذا النص القرآني، سواء كان القصد منه على رأي بعض المفسرين([2]) الرد على مزاعم
قومه المشركين عبدة الكواكب والأصنام وإبطال شركهم، أو «كان هذا منه في مهلة النظر
وحال الطفولية وقبل قيام الحجة... فلما تم نظره قال: ]إني
بريء مما تشركون[»([3]).. فإنه -في جميع
الأحوال- يبقى حوارا ذاتيا، يستفاد منه أن الحوار تجاوب وتواصل مع النفس قبل أن
يكون تجاوبا وتواصلا مع الآخر؛ إذ نجده «يبدأ في حديث الإنسان مع ذاته في حركة
الفكر في الداخل، حيث يدور الجدل بين احتمال واحتمال، وفكرة وفكرة، وظاهرة ودلالة،
في نطاق السلب هنا والإيجاب هناك، وذلك هو دوره في صنع العقيدة في الشخص المنتمي؛
وربما يتحرك الحوار في الداخل في عملية الالتزام والاستقامة في الخط والواقع؛
عندما يدور التجاذب بين منطق العقل ومنطق العاطفة، ونقاط الضعف ونقاط القوة، وذلك
هو دوره في تركيز الشخصية الملتزمة المستقيمة، وفي
كلتا الدائرتين تكون المهمة الحوارية، الوصول إلى وحدة الإنسان في
التزاماته الذاتية فلا يبقى في الازدواجية التي تجعل منه إنسانا يتحرك بين الشيء
ونقيضه في عملية اهتزاز فكري وحسي وعاطفي، لأن التعددية المتحركة في الذات لا تمنح
الإنسان الطمأنينة والاستقرار»([4]).
فالحوار مع النفس إذاً هو طريق مراجعة الذات كسبيل للارتقاء والتطور، بحيث
يدخل الإنسان في عمليات حوارية مع نفسه الكامنة بين جوانحه: يحاسبها، ويراقبها،
ويعاتبها، ويقومها...
ولعل حاجتنا إلى هذا النوع من الحوار أو التفكير الداخلي بما يُكَوِّن تلك
الحصانة والمناعة الذاتية تزداد في ظل الواقع المعيش الذي يعرف انفجارا إعلاميا
ومعلوماتيا رهيبا، وتدفقا فكريا وثقافيا مدعما بأحدث التقنيات وأكثرها جاذبية.
أما على رأي من قالوا أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك من أجل تسفيه معبودات
قومه وإبطال ما ادعوه من الشرك.. نستفيد طريقة مهمة في الحوار والإقناع؛ وهي
مجاراة المخالف في منطقه ودعواه، والظهور بمظهر المسترشد المستعين بمخالفه في
النظر، إلى أن يقوده بالحجة والدليل إلى الاعتراف ببطلان دعواه؛ جاء في تفسير الإمام
الصابوني نقلا عن الإمام الزمخشري: «وقوله ]هذا
ربي[ قول من يُنصف خصمه مع علمه
بأنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأن ذلك أدعى إلى الحق، ثم يَكِرُّ
عليه فيبطله بالحجة»([5]).
فقد رأينا كيف جارى إبراهيم عليه السلام قومه: ]فلما
جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي[ ثم «استدل
بالأفول: الزوال، والتغير والانتقال، على أنه لا يصلح أن يكون ربا إلها. فإن الإله
القديم لا يتغير، وإذا تغير احتاج إلى مغير، هذا لو اعتقدتموه ربا قديما، وإلها
أزليا. ولو اعتقدتموه واسطة، وقِبلة، وشفيعا، ووسيلة. فإن الأفول، الزوال، يخرجه
أيضا عن حد الكمال... فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج»([6]).
وأرى من إعجاز هذا النص الحواري البديع احتمالَهُ لآراء المفسرين جميعا؛
سواء القائلين منهم أنه حوار بين إبراهيم ونفسه على الحقيقة، أو القائلين بأنه
موجه إلى قومه، لأنه بانفتاحه على الاحتمالين معاً استطعنا أن نستنبط منه أكثر من فائدة ودلالة
فيما نحن فيه.
[2]- قال الزمخشري: «كان أبوه وقومه يعبدوه
الأصنام والكواكب فأراد أن ينبههم على ضلالاتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر
والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍ إلى ألا يكون شيء منها إلها، وأن وراءها
محدثا أحدثها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها»
("الكشاف"، 2/31).
[3]- "الجامع لأحكام القرآن"، 7/28.
[4]- محمد حسين فضل الله، مجلة المنطلق،
العدد98، ص118.
[5]- "صفوة التفاسير"، 1/372.
0 comments:
إرسال تعليق