آيات وتأملات
قال الله تعالى:
]وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[
(العنكبوت/46)
تقرر هذه الآية الكريمة حقيقة ضخمة عظيمة رفيعة -على حد تعبير سيد قطب- وهي
أن: «المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات، كلهم أمة واحدة تعبد إلها
واحدا» (في ظلال القرآن، 5/2745)
ومن ثم -كما يقول رشدي فكار- «كان الحث على التكامل والوحدة والرحمة
والتعاون بين بني البشرية هدفا وغاية من غايات الإسلام» (في المنهجية والحوار"، ص101).
والآية إذ تؤكد على
أصالة الحوار مع أصحاب الرسالات السماوية الأخرى، تؤصل بوضوح لما يسمى اليوم بحوار
الحضارات أو حوار الثقافات – لمن يقول إن الحضارة الإنسانية واحدة وإن تعددت
الثقافات، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف المراد - وهو موضوع حساس ومهم له أصوله في التاريخ
الإسلامي. بدءا بعهد النبوة المحمدية حيث تعاهد الرسول (ص) مع اليهود في إطار
التعايش السلمي بين الأديان، ووثيقة هذا التعاهد التي تعتبر بحق أهم ما قام به
النبي (ص) مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة التي أسسها بالمدينة
المنورة، مازالت محفوظة إلى الآن في كتب التاريخ والسيرة، شاهدة على سماحة الإسلام
وعدالته وإنسانيته، وأجتزئ من بنود هذه الوثيقة الذهبية ما يلي:
إن يهود بني عوف أمة
مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف
من اليهود.
وإن على اليهود
نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
وإن بينهم النصر على
من حارب أهل هذه الصحيفة.
وإن بينهم النصح
والنصيحة، والبر دون الإثم.(...).
كما أن قصة النجاشي ملك الحبشة وجماعته مع الوفد المهاجر من
المسلمين بقيادة جعفر بن أبي طالب من الأمثلة الواضحة في هذا الشأن، حيث يحكي
القرآن كيف أنهم انسجموا مع الأجواء الروحية من خلال ما تلاه المسلمون عليهم من
آيات تتحدث عن عيسى عليه السلام وأمه، وأمور أخرى
تتصل بالمسيحية السمحة، إلى درجة أن أعينهم فاضت من الدمع مما عرفوا من الحق، وفي
نقل هذه الحقيقة يقول الله تعالى: ]لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ
لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[
وهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يُرسل لعامله على مصر عمرو بن
العاص يوصيه بالأقباط خيراً، ويقول: وإن معك أهل الذمة، وقد أوصى رسول الله (ص)
بهم، وأوصى بالقِبط، فقال: وأن استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحما، ورحمهم
أن أم إسماعيل منهم". وقد قال (ص) : "من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته
فأنا خصمه يوم القيامة". فاحذر يا عمرو أن يكون رسول الله (ص) لك خصماً، فإن
من خاصمه فالله خصم.
واليوم «ليس من المنطق ان
نقاطع الغرب أو نتجاهله.. وليس من الوطنية أن نكون تابعين له.. لكن العقل
والواقعية يقتضيان أن ندخل في علاقة حوار حقيقية وجادة معه.. تحفظ لنا مصالحنا،
وتثبت حقوقنا، وتعطي صورة إيجابية عن حضارتنا وثقافتنا وديننا، وتسمح لنا بحرية
الحركة، أمام قوة الغرب المهيمنة في عالم اليوم».
(مؤمن الهباء، "المنار الجديد"،
يوليو 2003، عدد23، ص26-27)
هذه الهيمنة التي نجحت إلى حد لا يستهان به في تشويه حقيقة الإسلام
موظِّفةً كل أشكال الدعاية المغرضة؛ ففي «أبريل 1995 نشر الكاتب البريطاني بيتر مانسفيلد مقالا بعنوان
"مخاوف الغرب من الإسلام" قال فيه: "ليس صحيحا أن كل الغرب ضد
الإسلام، فهناك كثيرون منا يتعاطفون بقوة مع الإسلام ويعجبون به رغم أنهم غير
مسلمين، وهؤلاء لا يرضون إطلاقا عما يناله الإسلام من دعاية مغرضة في الغرب.. فنحن
نعرف أن هناك أشياء تقال عن الإسلام والمسلمين لا تقال عن الديانات الأخرى مثل
المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية.. ولقد ساهمت التغطية التلفزيونية
والإذاعية في إذكاء روح الشك في المسلمين والإسلام"».( المنار الجديد"،
يوليو 2003، عدد23، ص17-18)
وهذه النظرة المغلوطة عن الإسلام، التي تصوره للغربيين على أنه الخطر
الداهم، مع ما يزكي ذلك من سلوكات شاذة طائشة من قبل محسوبين على الإسلام
والمسلمين هنا وهناك، هي التي تفسر تنامي مشاعر الحقد على هذا الدين عند البعض،
وإن كان بعض المحايدين المنصفين من الغربيين أنفسهم مثل المستشرق
"كوننسفيلد" ينفي هذه الادعاءات الباطلة، وقد خصص لذلك كتابا كاملا
عنونه بـ: "أسطورة الخطر الإسلامي".
أما مانسفيلد فيؤكد: «ان جانبا كبيرا من مسؤولية الشك المتبادل بين الشرق
والغرب يعود إلى التاريخ، وسوء الفهم الناجم عنه.. إذ إن هذين العالمين كانا في
حالة حرب مستمرة تقريبا لحوالي ألف عام.. كما أن ذكريات هذه الحرب انغرست بعمق في
اللاوعي وبصورة مشوهة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولنا أن نتساءل: كم عدد الأطفال في
المدارس البريطانية الذين يعرفون -مثلا- أنه حين استولى الصليبيون على مدينة القدس
عام1099 ميلادية أحرقوا جميع اليهود حتى الموت، ولكن حين حرر
المسلمون المدينة بعد 90سنة صفحوا عن الجميع
وتسامحوا مع الديانات الأخرى.
ويضع مانسفيلد يده على السبب الأساس لسوء الفهم المرتبط دائما بالإسلام..
هذا السبب هو تصادم المصالح، وانتفاضة روح المقاومة في الشعوب الإسلامية ضد
الاستعمار الغربي بكافة أشكاله، ومن هنا كان لابد أن يلجأ هذا الاستعمار إلى تشويه
الإسلام والمسلمين».( المنار الجديد"، يوليو 2003، عدد23، ص18)
وخير سلاح نواجه به حملات التشويه المغرضة هذه هو سلاح الحوار الذي نتخذه
جسرا للتفاهم والتعايش في عالم أكثر أمنا وسلاما للجميع. وحتى ينجح هذا الحوار
لابد له من ركائز يستند إليها، وأسس تسنده حتى لا يفضي بنا إلى مشكلة جديدة أو
مشكلات جديدة تنضاف إلى جملة المشكلات التي نعاني منها. وقد حصر الكاتب مؤمن
البهاء في مقاله القيم في مجلة "المنار الجديد" هذه الركائز في أربع:
أولها: «أن الناس جميعا
خلقوا من نفس واحدة، ومن ثم فكل البشر سواسية، لا استعلاء لأحد منهم على أحد بسبب
الدين أو الجنس أو اللون أو العنصر مادام الهدف هو التعايش في ظل الأمن المتساوي
للجميع» (المنار
الجديد"، يوليو 2003، عدد23، ص19)
ثانيها : «الحوار لا يكون
حوارا حقيقيا إلا إذا كان هدفه الحفاظ على الإنسان من حيث إنه إنسان له مقومات
مصانة.. نفسه وماله وعرضه وكرامته وحريته»
(نفسه ص19)
وهو مدلول قوله تعالى: ]
قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئا ولا يتخذ بعضها بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون[
ثالثها:
«الحوار بين الحضارات لا يعني إلغاء التمايز والاختلاف الحضاري، ولا يعني
العمل على سيادة حضارة واحدة على غيرها من الحضارات بدعوى تذويب الفوارق بين
الشعوب المختلفة..» ( نفسه، ص19)
وتأكيدا على ضرورة احترام الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية في حوار
الثقافات والحضارات؛ يقول عبد المجيد بن مسعود: «غير أننا ونحن نعلن عن مشروعية
الحوار الثقافي، لابد أن نميز فيه بين حوار منضبط وحوار منسلخ. فالأول هو المتسلح
بالهوية، يستند إليها في ممارسته المحاورون، ويتحصنون بما تختزنه من مفاهيم
وتصورات، وما تحمله من رؤية للكون والحياة والألوهية والإنسان، ومن قيم تَحْكم
سلوك الإنسان وتُشبع حاجاته وأشواقه في كل المجالات. أما الثاني، أي المنسلخ من
الهوية، فهو الذي ينطلق ممارسه من الفراغ، فيكون أشبه بالغادي إلى ميدان المعركة
بغير سلاح، وهو لا محالة مفضٍ إلى الانبطاح» (منظومتنا
التربوية إلى أين؟ أضواء نقدية وأفق البديل"، عبد المجيد بن مسعود، سلسلة
الحوار37، منشورات الفرقان)
فإذا كان ولا بد من وجود قيم مختلف عليها بين المسلمين وغير المسلمين، في
مجالات متعددة، فإنه لا سبيل أمام الجميع
إلا التفاهم، وتقبل الآخر، واحترام خصوصيته.. حتى يتم التعايش في سلام،
ووئام، بدلا من التنافر، والتناحر، والتآكل.
رابعها: «وحتى ينجح الحوار
لابد أن تَستَنهِض كل الأطراف قدرتها على التخلي عن ميراث الأحقاد القديمة
والثارات والنزاعات والحروب، وأن يكون واضحا أن هذا الميراث كان شاهدا على مرحلة
تاريخية معينة، وأن مستقبل التعايش أهم من أن نظل هائمين في فلك صراعاتنا القديمة» ( نفسه، ص19 )
ولكي نفرض على الغرب احترامنا، وإسقاط خيار الغطرسة والهيمنة علينا، يلزم
أن نكون أقوياء؛ ولا يكفي أن نكون على حق، لأن قوة الحق دون حق القوة لا تجدي،
ولأن الغرب لا يعترف إلا بالأقوياء.. إنها القوة التي دعا إليها الإسلام لإرهاب
الخصم من مجرد التفكير في الاعتداء علينا، وعند توازن الرعب تسقط خيارات العنف
والحرب، ويستتب السلام، ويتحقق التعايش العادل.
0 comments:
إرسال تعليق