مواصفات الداعية الناجح
أهداف الدرس:
- بيان مواصفات الداعية الناجح.
- العمل على التحلي بهذه المواصفات واكتسابها.
تمهيد:
إذا سألت عن السبيل التي اختص بها حبيبك وحبيبي محمد صلى
الله عليه وسلم في حياته، كان الجواب: الدعوة إلى الله: [ قل هذه سبيلي أدعو إلى
الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ] يوسف/108.
وإذا سألت عن أحسن الناس قولا، كان الجواب: الداعية إلى
الله: [ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين] (
فصلت/32 )
ولا ريب أن هذا التشريف الرفيع، والتكليف البديع لا
يناله من الدعاة إلا من اتصف بمواصفات خاصة، تجعل من دعوته دعوة مباركة نافعة نفع
الغيث للأرض الجذباء.
فما هي يا ترى أصول هذه المواصفات؟؟
نصوص الانطلاق:
قال الله تعالى: [ قل يا قوم أرايتم إن كنت على بينة من
ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب] هود/88.
قاموس المفاهيم:
على بينة: على برهان وعلم ويقين.
أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه: أن أرتكب ما أحذركم منه
وآمركم باجتنابه.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت: لا أريد فيما آمركم به
وأنهاكم عنه إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم بقدر استطاعتي.
ما توفيقي إلا بالله: ليس التوفيق إلى الخير إلا بتأييده
سبحانه ومعونته.
عليه توكلت وإليه أنيبك: على الله سبحانه اعتمدت في جميع
أموري، وإليه تعالى أرجع بالتوبة والإنابة.
مضامين النص:
- على الداعية أن يكون على علم ويقين مما يدعو إليه، لا
أن يرمي عن عماية فيفسد أكثر مما يصلح:( على بينة من ربي )
- عليه كذلك ان لا يأتي خلاف ما يدعو إليه؛ فيختل شرط
القدوة فيه: ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه )
- أن تكون نيته خالصة لله عز وجل، لا يبتغي من وراء
دعوته جاها ولا مالا، ولا غير ذلك: ( إن أريد إلا الإصلاح )
- أن يبذل قصارى جهده في دعوته: ( ما استطعت )
- أن يتوكل على الله ويستعين به سبحانه، ويسأله التوفيق
والثبات منيبا إليه، داخلا عليه من باب الفقر إليه: ( وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وإليه أنيب ).
المحور الأول: الإخلاص.
الغاية من الدعوة إقامة دين الإسلام في الأرض وترشيد
تدين المسلمين، فإذا جرد الداعية قصده لهذه الغاية، استقام على الطريقة، وقضى
حياته في سيرة راضية، وإذا انحرف عن هذا القصد – ولو قيد أنملة – رأيته يضطرب في
حال دعوته، كالريشة في مهب الريح.
وقد حكى التنزيل في مواعظه أن شعيبا – عليه السلام – قد
برأ دعوته من أخذ الأعواض ونيل الأغراض، حين قال: [ إن اريد إلا الإصلاح ما استطعت
وما توفيقي إلا بالله ] (هود/88)
وكذلك جاء على لسان الدعاة الأول أنبياء الله ورسله في
القرآن الكريم:
فهذا نوح عليه السلام قال لقومه:
[ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ] (
هود/29 )
وهذا هود عليه السلام قال:
[ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن اجري إلا على الذي
فطرني أفلا تعقلون ] ( هود/51 )
وجاء على لسان كل من شعيب وصالح ولوط عليهم السلام
أجمعين:
[ وما أسألكم عليه من اجر إن أجري إلا على رب العالمين ]
( الشعراء/109 )
أما خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فورد
على لسانه:
[ قل ما سألتكم من اجر فهو لكم، إن اجري إلا على الله،
وهو على كل شيء شهيد ] ( سبأ/47 )
وفي ذلك من البيان والإرشاد إلى أن تشوف الداعية إلى ما في
أيدي الناس، وتطلعه إلى أن ينال من وراء دعوته شيئا من متاع هذه الحياة الدنيا
قادح في صدقه، خادش في إخلاصه.
فاجعل أخي الداعية سعيك الدعوي خالصا مخلصا؛ تبتغي به
وجه الله جل في علاه والدار الآخرة، فبذلك يزرع الله في دعوتك البركات، ويفتح على
يدك ما لم تتوقعه من الفتوحات، التي ترى إن شاء الله تعالى آثارها العظيمة في
الدنيا والآخرة.
المحور
الثاني: العلم
من الدعاة من تطيب سريرته ويخلص قصده، وإنما يخونه قلة
بضاعته في العلم، وربما أساء في دعوته من حيث يظن أنه يحسن.
ولذلك تعين إلى جانب اتصاف الداعية بالإخلاص أن يكون على
بينة مما يدعو إليه، بمعنى أن يكون على علم ودراية، وألا يرمي عن عماية، فيفسد
أكثر مما يصلح؛ قال تعالى:
[ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
] ( يوسف/108)
والعلم المراد طبعا: العلم النافع، مصحوبا بشاهده
ومصداقه وهو: العمل الصالح.
ولا يفهم من ذلك أن واجب الدعوة خاص بأهل العلم
والاختصاص، فإن من الحق ما يكون واضحا بنفسه أو بدليل معلوم، بحيث لا يتأتى فيه
نزاع، ولا يحتاج الأمر فيه إلى تقرير حجة، أو إزالة شبهة: كفريضة الصلاة، وفضيلة
العدل، وشناعة الكذب وما إلى ذلك، فعلى كل مسلم ولو كان عاميا أن ينبري للدعوة
إليه، قال صلى الله عليه وسلم: " بلغوا عني ولو آية" ( أخرجه البخاري في
صحيحه )
وأما ما لا تدركه العامة من الحقائق، ويضطر الداعية إلى
أن يورد في بيانه الأدلة ويطارد الشبه، فأمر الدعوة إليه من حق أهل العلم القادرين
على تحرير بحثه، وحسن التصرف في سوق أدلته.
وعلى الداعية عموما أن يحرص كل الحرص على الاستزادة من
العلم ويداوم على طلبه، ويصبر ويصابر على مجاهدته؛ من تفسير للقرآن الكريم، وشرح
للسنة النبوية، واطلاع على السيرة، ومطالعة في مصنفات العلماء والمفكرين والباحثين
قديما وحديثا، حتى يكتسب ثقافة شرعية وتاريخية وواقعية وعلمية وأدبية وإنسانية.
وإذا أمكنه الجمع بين هذا وبين المذاكرة والمدارسة وسؤال أهل الخبرة والرسوخ
واستشارتهم كان ذلك أفيد وأضمن لأن تصفو دعوته ويستقيم منهجه.
المحور الثالث: القدوة.
من صفات الداعية الناجح كذلك أن يكون صالحا في نفسه،
مستقيما في سيرته، يعيش بالإسلام وله.
فقد جرت عادة الناس بأن لا تلين قلوبهم لموعظة واعظ، ولا
يقتدون برأي داعية أو مرشد، إلا إذا وثقوا بأمانته، وأبصروا في حالته الظاهرة
مثالا لما ينصحهم به، فتكون دعوته بحاله أبلغ من دعوته بمقاله.
وقد تبرأ شعيب عليه السلام من مخالفة قومه إلى ما حذرهم
منه؛ فقال: [ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاك عنه ] (هود/88)
وفيه تأكيد على صفة القدوة، والتمثل الصادق للفكرة أو
المبدأ الذي يدعو إليه المصلح، وإلا كانت دعوته ممقوتة، وكان هو نفسه ممقوتا؛ قال
تعالى: [ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ] ( الصف/3 )
وجاء في كثير من الآيات المسوقة في فضل الدعوة ذكر صلاح
الداعية في نفسه، واستقامته في عمله؛ قال الله تعالى: [ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى
الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ] ( فصلت/33)، وقال تعالى : [
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ
شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ
ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيم ] ( النحل/76 ).
وجاء في التنزيل ما فيه تقريع وتعجب من حال الذي يلقي
الموعظة، ويبسط لسانه بالأمر بالمعروف، وهو لا يعمل به؛ قال الله تعالى: [ أتامرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ] ( البقرة/44 )
وفي هذه الآية شاهد على أن من أرشد غيره إلى معروف وهو
لا يأتيه، فقد دخل في زمرة الذين لا يعقلون.
وصدق الشاعر إذ يقول:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله /// عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيها // فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنالك يقبل ما وعظت ويقتدى // بالعلم منك وينفع
التعليم.
وأجمل بقول الشافعي رحمه الله :
يا واعظ الناس عما أنت فاعله /// يا من يعد عليه العمر
بالنفس
احفظ لشيبك من عيب يدنسه /// إن البياض قليل الحمل للدنس
كحامل لثياب الناس يغسلها /// وثوبه غارق في الرجس
والنجس
تبغي النجاة ولم تسلك طريقتها /// إن السفينة لا تجري
على اليبس.
المحور الرابع: صدق التوكل على الله تعالى.
الداعية الناجح مهما اتصف بالإخلاص في العمل، والقدوة
الصالحة، وتسلح بالعلم فيما يدعو إليه لا بد له من صدق التوكل على الله،
والاستعانة به، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى في بلوغ النتائج المرجوة من وراء
دعوته.
ومن علامات صدق الداعية في توكله على الله عدم استعجاله
النتائج، وأن يقف سدا منيعا أمام مشاعر الإحباط والتدمر واليأس حتى لا تتسرب إلى
فؤاده، مهما طال زمن الإصلاح، ومهما كان المردود الدعوي دون الانتظارات المتوقعة؛
جاء على لسان شعيب عليه السلام:
[ إن اريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله
عليه توكلت وإليه أنيب ]
ومدح الله سبحانه وتعالى المتصفين بالصبر وصدق التوكل
عليه بقوله: [ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ] ( النحل/42 )
وليعلم الداعية علم اليقين أن الأمر – كما قال جمال
الدين الأفغاني- لا يتسع إلا إذا ضاق، وأن قيمة الفجر لا تظهر إلا بعد الظلام
الحالك.
وليذكر دائما أن من الرسل من قضى نحبه ولم يستجب لدعوته
إلا النفر أو النفران مع طول زمن الدعوة؛ كنوح عليه السلام الذي قال عنه الحق
سبحانه وتعالى: [ ولقد ارسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ] (
العنكبوت/13)
فالتوفيق لا يكون إلا بالله ومن الله عز وجل، ولذلك تعين
على الداعية أن يدخل إلى الله من باب الفقر إليه، عارضا عليه ضعفه وقلة حيلته،
باكيا على الله في خلواته، بقلب خاشع ضارع منكسر، ملحا على مولاه بالسؤال أن يزرع
في عمله البركة، ويفتح القلوب لدعوته، ويشمله بعنايته ورعايته وتوفيقه.
فالداعية الموفق بإذن الله تعالى هو الذي يكون له حال
خاص مع الله في محراب التضرع والخشوع والبكاء والافتقار والاستغفار.