التسميات

مبحث الدلالات / إدريس أوهنا




       مبحث الدلالات
"طرق دلالة الألفاظ على الأحكام"
ملخص محاضرات الفصل الرابع
وحدة أصول الفقه2
            الموسم الدراسي 2019/2018          
                      ذ. إدريس أوهنا
ü   محاور الدراسة :
 1- تقديم: يتم فيه بيان أهمية دراسة مبحث الدلالات.
 2- تعريف الدلالة لغة واصطلاحا.
 3- التصنيف العام للدلالات عند الجمهور وعند الحنفية.
4- طرق دلالة الألفاظ على الأحكام عند الجمهور وعند الحنفية.
5- دراسة طرق دلالة الألفاظ على الأحكام اعتمادا على تقسيم الحنفية:
                              * دلالة العبارة
                              * دلالة الإشارة
                              * دلالة النص
                              * دلالة الاقتضاء
 6- دراسة مفهوم المخالفة.
ü   الخطة المعتمدة في دراسة كل دلالة على حدة:
           أولا: تعريف الدلالة؛ موضوع الدراسة.
           ثانيا: مضامين التعريف ومحترزاته.
           ثالثا: الأمثلة.
           رابعا: التحليل والاستنتاج.
المراجع الأساسية:
      ”المناهج الأصولية“: الدكتور فتحي الدريني.
      ”تفسير النصوص في الفقه الإسلامي“: الدكتور محمد أديب الصالح.
      ”أصول الفقه“: محمد أبو زهرة.


أولا: تقديم (أهمية هذا المبحث)
لمبحث الدلالات أهمية كبيرة في علم أًصول الفقه، فهو بمثابة العمود الفقري لهذا العلم. به تفهم الأدلة، وبه تستنبط الأحكام منها، وبه يتوصل إلى معرفة منازع العلماء في الاجتهاد، وأسباب الخلاف بينهم في ما اختلفوا فيه من المسائل والفروع الفقهية، وكيفية الترجيح بين آرائهم.
ثانيا: تعريف الدلالة لغة واصطلاحا.
الدلالة لغة:
الدلالة بفتح الدال وكسرها، والفتح أفصح، مصدر من الفعل دل، أي أرشد، والجمع دلالات ودلائل.
فكل ما يرشد إلى معرفة الشيء بعلامة لفظية، أو غير لفظية سواء كانت وضعية كالإشارات والرموز، أو عقلية كدلالة الطرق على الطارق وطول الثوب على طول صاحبه، أو طبيعية كدلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على الخوف، بقصد من الدال أو بغير قصد منه، فهو دلالة.
 الدلالة اصطلاحا:
 في الاصطلاح الأصولي الدلالة هي: كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بغيره. فالشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول. (  انظر مثلا " الإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي" )
ثالثا: أقسام الدلالة عند الأصوليين
تنقسم الدلالة عامة عند الأصوليين إلى أربعة أقسام:
1)  الدلالة باعتبار وضع اللفظ للمعنى:
 وأهم فروعها: العام والخاص والمشترك والمطلق والمقيد والأمر والنهي.
2)  الدلالة باعتبار استعمال اللفظ في المعنى:
وأهم فروعها: الحقيقة والمجاز والصريح والكناية.
3)  الدلالة باعتبار وضوح المعنى وخفائه:
تتفرع عند الأصوليين إلى واضح الدلالة، وأنواعه     – مرتبة من الأقل وضوحا إلى الأكثر وضوحا - عند الأحناف هي: الظاهر والنص والمفسر والمحكم، وعند الجمهور هي: الظاهر والنص.
وخفي الدلالة، وأنواعه – مرتبة من الأقل خفاء إلى الأكثر خفاء - عند الأحناف هي: الخفي والمشكِل والمجمل والمتشابه، وعند الجمهور هي: المؤول والمجمل والمتشابه.
4)  الدلالة باعتبار دلالة الألفاظ على الأحكام الشرعية:
تتفرع عند الأحناف من الأصوليين إلى دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة النص ودلالة الاقتضاء.
وسنتطرق إليها دلالة دلالة فيما بعد.
أما عند المتكلمين أو الجمهور من الأصوليين فتتفرع إلى:
أ‌-        دلالة المنطوق، وهي:"دلالة اللفظ على حكم ذكر في الكلام ونطق به؛ مطابقة، أوتضمنا، أوالتزاما"
والمطابقة هي: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له.      (ومن أمثلة ذلك من النصوص الشرعية قوله تعالى:"وأحل الله البيع وحرم الربا"، فهو يدل مطابقة على حلية البيع وحرمة الربا.)
والتضمن هو: دلالة اللفظ على جزء ما وضع له.      (ومن أمثلة ذلك من النصوص قوله تعالى:  " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ" المائدة:7. فيدخل ضمن معنى "وجه" الجبهة والحاجبان والعينان والخدان والأنف والشفتان والذقن واللحيان والفم )
   والالتزام هو: دلالة اللفظ على لازم عقلي أو عرفي خارج عن المعنى الموضوع له، كما هو الشأن في دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة كما سنرى لاحقا.(والمراد بالعرفي هنا: عرف الشارع في خطابه؛ فإن من اللزوم العرفي للشارع مثلا إطلاق الجزء وإرادة الكل كإطلاق الرقبة على العبد، أو إطلاق الحال وإرادة المحل كما في قوله تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله}،أي في الجنة لأنها محل الرحمة، أو إطلاق الشرط وإرادة المشروط كما في قوله تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي صلاتكم، فالإيمان شرط للصلاة. وغير ذلك من المعاني اللازمة عن ألفاظ الشارع بمقتضى عرفه الاستعمالي).
 وتنقسم دلالة المنطوق إلى قسمين:
   منطوق صريح ، وهو: " دلالة اللفظ على الحكم بطريق المطابقة، أو التضمن، إذ إن اللفظ قد وضع له "
        ومنطوق غير صريح، وهو: " دلالة اللفظ على الحكم بطريق الالتزام؛ إذ إن اللفظ مستلزم لذلك المعنى."
ويتفرع هذا الأخير إلى ثلاث دلالات هي: الاقتضاء  والإيماء  والإشارة .
ب‌- دلالة المفهوم، وهي: "دلالة اللفظ على حكم لم يذكر في الكلام، ولم ينطق به"
وهو إما:
مفهوم موافقة، وهو:"دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه، وموافقته له نفيا وإثباتا، لاشتراكهما في معنى يدرك بمجرد معرفة اللغة؛ دون الحاجة إلى بحث واجتهاد"
   أو مفهوم مخالفة،  وهو:"دلالة المنطوق على ثبوت خلاف حكمه، المقيد بقيد، لغير المنطوق، عند انتفاء ذلك القيد المعتبر في تشريعه".

قلنا من قبل إن دلالة الألفاظ على الأحكام تتفرع عند الأحناف من الأصوليين إلى دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة النص ودلالة الاقتضاء، وهو ما سنتعرض إليه بالتفصيل فيما يلي:

أولا: دلالة العبارة                                                  
تعريف دلالة العبارة:
العبارة لغة: تفسير الرؤيا، يقال عَبَرتُ الرؤيا أَعبُرُها عبارة أي فسرتها وكذا عبَّرتها... فسميت الألفاظ الدالة على المعاني عبارات؛ لأنها تفسر ما في الضمير الذي هو مستور، كما أن المعبر يفسر ما هو مستور. ( كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1418ه/1997م،ج1،ص106)
أما في الاصطلاح، فدلالة العبارة عند الحنفية هي: " دلالة اللفظ على المعنى أو الحكم المقصود من سوقه أو تشريعه أصالة أو تبعا "     (المناهج الأصولية، ص: 226)
أو هي:   " دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له، أو على جزئه، أو على لازمه الذاتي المتأخر، مع قصد الشارع أو المتكلم هذا المعنى، وسوق الكلام لأجله "       (نفسه، ص: 227)
تحليل التعريف:
بعد أن ساق د. فتحي الدًّريني هذا التعريف الدقيق لدلالة العبارة، قال مباشرة :
" وبذلك يتبين خطأ بعض الباحثين المحدَثين في تحديدهم لعبارة النص، من أنها (المعنى الحرفي للنص) حيث يقول: (والمراد بما يفهم من عبارة النص، المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى ظاهرا فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره، كان مدلولَ عبارة النص، ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص) – علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ص144، طبعة دار القلم، الكويت، سنة 1292ه/1972م - واضح أنه قد قصر (عبارة النص) على المعنى المطابقي الموضوع له، بينما نرى الأصوليين لا يقصرونه على ذلك، بل يشمل عندهم – فضلا عن ذلك- المعنى التضمني، والمعنى الالتزامي، ما دام ذلك مقصودا للشارع أو المتكلم." (المناهج الأصولية، ص227)
     وقد قيد اللازم في التعريف بالذاتي احترازا عن اللازم بواسطة العلة   اللغوية في مفهوم الموافقة أو دلالة النص باصطلاح الحنفية؛ كما في قوله تعالى: [ ولا تقل لهما أف ] فإن تحريم التأفيف  في الآية يستلزم عقلا تحريم الضرب والشتم وما إليهما، ولكن لا ذاتيا، بل بواسطة العلة اللغوية التي تدل عليها ألفاظ النص وتراكيبه، وهي: " الأذى"؛ ما دامت كل تلك الأفعال تشترك في هذه العلة اللغوية.
وقُيد اللازم كذلك بالمتأخر احترازا عن اللازم المتقدم الذي يكون في دلالة الاقتضاء.
وقيد ب: (مع قصد الشارع هذا المعنى...) احترازا عن اللازم المتأخر الثابت بدلالة الإشارة لأنه غير مقصود للشارع لا أصالة ولا تبعا عند جمهور الأصوليين.

تحليل أمثلة لدلالة العبارة
المثال الأول:
﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾  البقرة 275

الأحكام المقصودة للشارع في هذه الآية، والتي ساق الكلام لأجلها هي:

- حلية البيع وحرمة الربا.( وهو المعنى المطابقي للنص)
- التفرقة بين البيع والربا ونفي المماثلة بينهما.( وهولازم عقلي متأخر، توصلنا إليه من اختلاف حكم البيع عن حكم الربا المنصوص عليهما في الآية)
ومن ثم تكون دلالة الآية على هذين الحكمين معا دلالة عبارة، إلا أن الحكمين يختلفان في درجة القصد، فأحدهما مقصود للشارع بالأصالة، والآخر مقصود بالتبعية.
فمن منهما مقصود بالأصالة، ومن منهما مقصود بالتبعية؟
لكي نعرف ذلك لا بد لنا من استنطاق القرائن السياقية؛ إما المقالية:  المتعلقة بسياق ألفاظ النص، وإما المقامية: المتعلقة بسبب نزول النص إن كان قرآنا، أو سبب وروده إن كان سنة. أو هما معا، إذا وجدا معا.
وهنا السياق التركيبي للنص فيه قرينة دالة على المراد؛ وهي قوله تعالى: [ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ] ، فهذه القرينة تدل على أن الحكم المقصود أصالة في الآية هو التفريق بين البيع والربا ونفي المماثلة بينهما، وإن كان لازما عقليا متأخرا في النص، والحكم المقصود للشارع تبعا هو حِلّ البيع وحرمة الربا، وإن كان معنى مطابقيا للنص.
يؤكد ذلك السياق الحالي أو المقامي المتمثل في سبب نزول الآية؛
قال الماوردي في " النكت ":
" [ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا]، قيل: إنه يعني ثقيفا لأنهم كانوا أكثر العرب ربا، فلما نهوا عنه قالوا: كيف نُنهى عن الربا وهو مثل البيع. فحكى الله تعالى ذلك عنهم، ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع؛ فقال تعالى: [وأحل الله البيع وحرم الربا]..."
             
المثال الثاني:
﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ البقرة 233
يدل قوله تعالى هذا بدلالة العبارة على الأحكام التالية:
1-              إيجاب نفقة الوالدات على الآباء.
 وهو المعنى المطابقي المقصود أصالة في الآية، كما يدل على ذلك بوضوح سياقها المقالي.

2-              اختصاص الآباء بنسب الأبناء.
3-              اختصاص الآباء بمال الأبناء.
وهما معنيان تضمنيان مقصودان تبعا لا أصالة.
أما كونهما تضمنيان فلدخولهما ضمن معاني ومفردات لام الاختصاص في عبارة "المولود له".
وأما الدليل على أنهما مقصودان في الكلام فهو:
أولا: الإطناب في التعبير بالمولود له عوض الوالد.
ثانيا: لأن قوله تعالى: [وعلى المولود له] جاء بمثابة التعليل لحكم وجوب نفقة الآباء على الوالدات، وتعليل الحكم مقصود بلا ريب.
أما الدليل على كونهما مقصودين تبعا لا أصالة؛ فلأنهما سيقا تمهيدا للحكم الأصلي وهوإيجاب نفقة الوالدات على الآباء؛ أي ما دام الأب يختص بنسب الولد ويختص بماله، فإنه بالمقابل ملزم بالنفقة على الوالدة، على قاعدة: الغنم بالغرم.
أما اختصاص الملك الذي هو من معاني لام الاختصاص كذلك، فغير مراد للشارع لا أصالة ولا تبعا؛ لأن الحر لا يُمَلَّك.
وتجدر الإشارة إلى أن اختصاص الأب بمال ولده يؤيده حديث:   " أنت ومالك لأبيك " (أخرجه ابن ماجة وغيره، وصححه ابن حجر والألباني)، ويعارضه حديث: " كل أحد أحق بكسبه من والده، وولده، والناس أجمعين" (أخرجه سعيد ابن منصور في سننه، والبيهقي في سننه)، فلا بد من التأويل لرفع هذا التعارض الظاهري،والجمع بين مدلولات الأحاديث الواردة في الباب، وذلك بتأويل اختصاص الأب بمال ولده في حدود الحاجة الأصلية (أي: ضروريات العيش التي يحتاجها الأب من غير سرف ولا ترف)؛ حيث يجوز له الانتفاع بمال ولده والحالة تلك بدون عوض، فما زاد عن الحاجة الأصلية جاز له الانتفاع به ولكن بعوض، توفيقا بين النصين وإعمالا لهما معا.
ويؤيد هذا التأويل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
" إن أولادكم هبة لكم، يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها "( رواه الحاكم وصححه البيهقي)

المثال الثالث:
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا )  النساء﴿٣﴾
سبب نزول هذه الآية:
" روى الزهري عن عروة قال: قلت لعائشة: قوله تعالى: [ وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى... الآية ] فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حَجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يُقسطوا لهن، وأُمروا أن ينكحوا سواهن من النساء، وروي عن ابن عباس نحوُه، كما روي عن سعيد بن جبير قوله: ما أحِل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى؛ ألا تُقسطوا فيهن."

تفيد الآية بطريق العبارة الأحكام التالية:
1-              إباحة الزواج: "فانكحوا" ( وهذا الحكم مقصود بالتَّبَع، ذكِر ليتوصل به إلى المقصود أصالة بعده، وقدعُلم ذلك من سبب النزول )
2-              إباحة التعدد في حدود أربع زوجات بشرط تحقيق العدل بينهن.
3-              وجوب الاقتصار على زوجة واحدة عند خوف الظلم.
   ( وهذان الحكمان - الثاني والثالث- مقصودان بالأصالة؛ كما يدل على ذلك السياق وسبب النزول )

المثال الرابع:
  (يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ  بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًاۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ...) البقرة ﴿٢٨٢﴾
تفيد الآية عن طريق العبارة الأحكام التالية:
1-              الأمر على وجه الاستحباب – دل على الاستحباب القرينة السياقية اللاحقة:{فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته}-  بتوثيق الديون في المعاملات المالية (والمراد بالدين كل حق مادي ثبت بالذمة كالقرض أو المهر أو ثمن البيع أو ثمن الإيجار...)
2-               أن يكون ذلك بحضور الدائن والمدين والشهود.
3-              على الكاتب أن يلتزم الإنصاف والصدق في الكتابة، بأن تكون مطابقة لما يمليه المدين بلا زيادة ولا نقصان.
                                                                                                           
4-              وجوب الكتابة من غير مماطلة على من طلبت منه على حسب علمه.
5-              على المدين أن يملي مضمون الدين كما هو، إذ يعتبر ذلك منه إقرارا بالحق وأجله المحدد.
6-              أن ولي المدين يقوم مقامه في الإملاء، إذا تعذرعليه ذلك لسفه أو عجز.
وكل هذه الأحكام دل عليها النص مطابقة، وهي مقصودة للشارع أصالة في النص، وقد ساق الكلام لأجلها كما هو ظاهر.

ثانيا: دلالة الإشارة                                                 
تعريف دلالة الإشارة:
عرفها د. فتحي الدريني بقوله:
 " دلالة اللفظ على معنى أو حكم غير مقصود للشارع لا أصالة ولا تبعا، لكنه لازم عقلي ذاتي متأخر للمعنى الذي سيق أو شرع النص من أجله. "  (المناهج الأصولية، ص: 229)
وعرفها محمد أديب الصالح بقوله:
         " دلالة اللفظ على حكم غير مقصود، ولا سيق له النص، ولكنه لازم للحكم الذي سيق لإفادته الكلام، وليس بظاهر من كل وجه "  (تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، 1/478)
تحليل التعريف:                       
يؤخذ من هذين التعريفين:
أولا: إن الحكم الذي يستفاد بطريق الإشارة هو حكم له ارتباط بألفاظ النص.
ثانيا: إن هذا الارتباط يكون غير مباشر؛ بمعنى أن الحكم يستفاد من النص بطريق اللزوم العقلي أو العرفي (المراد بالعرفي هنا: عرف الشارع في الخطاب أو العرف الاستعمالي)،لا بالمطابقة  ولا بالتضمن.
ثالثا: إن هذا الحكم غير مقصود للشارع، ولم يَسُقِ الكلامَ لأجله..وهو قول جمهور الأصوليين، وخالف في ذلك القاضي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي الحنفي (ت747)، الذي ذهب إلى أن لازم دلالة الإشارة مقصود بالتبعية، لأنه لا يعقل في نظره أن تكون الأحكام ثابتة من غير قصد إليها، وهو رأي له وجاهته. ( انظر التوضيح على هامش التلويح، دار الكتب العلمية، بيروت، 1/130).
رابعا: إن هذا الحكم لازم عقلي "ذاتي متأخر"؛ وفي ذلك احتراز عن أمرين:
الأمر الأول: احتراز عن اللازم بواسطة العلة اللغوية، كما هو الشأن في "دلالة النص" باصطلاح الحنفية أو "مفهوم الموافقة" باصطلاح الجمهور؛ كما في قوله تعالى: [ ولا تقل لهما أف ] فإن تحريم التأفيف  في الآية يستلزم عقلا تحريم الضرب والشتم وما إليهما، ولكن لا ذاتيا، بل بواسطة تلك العلة اللغوية التي يدل عليها التركيب اللفظي للآية، وهي: " الأذى"؛ ما دامت كل تلك الأفعال تشترك في هذه العلة اللغوية.
الأمر الثاني: احتراز عن اللازم المتقدم الذي يكون في دلالة الاقتضاء.
خامسا: إن هذا الحكم الذي دل عليه النص بالإشارة قد يكون واضحا وقد يكون خفيا. فمن الإشارات الواضحة قوله تعالى:     [ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون]؛  " فإن الحكم الذي دل عليه اللفظ مطابقة وسيق النص من أجله هو وجوب استفسار أهل العلم في كل ما تتعلق به مصالح الأمة. لكن هذا الحكم يستلزم عقلا وجوب إيجاد أهل العلم من طرف الأمة عن طريق التعليم والتأهيل، لتوقف تشريع الحكم عليه، وإلا لم يكن لهذا الحكم فائدة. وكذلك هو الأمر في قوله تعالى: [ وشاورهم في الأمر].
وقد تكون دلالة الإشارة – أي ارتباط اللازم بالملزوم- غير واضحة تحتاج إلى جهد فكري ومسافة للتأمل، قد تطول وقد تقصر... كالحكم الثابت بالإشارة في قوله تعالى: [ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ] (الأحقاف 15) مع قوله تعالى في آية أخرى:            [ والوالداتُ يرضعن أولادهن حولين كاملين ] (البقرة 233) فالحكم الذي دلت عليه الآية الأولى، أن مدة الحمل والفصال عن الرضاع مجموعتين ثلاثون شهرا، وما دلت عليه الآية الثانية، أن مدة الرضاع لوحدها أربعة وعشرون شهرا، وأن هذين الحكمين استلزما حكما آخر بطريق الإشارة، وهو أن مدة الحمل قد تكون لستة أشهر بإسقاط مدة الفصال من مدة الحمل والفصال.
وقد كانت هذه الدلالة غير واضحة حتى إن من تفرد بإدراكها احتفظ التاريخ باسمه تقديرا لحصافة فكره، حيث نسبها إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ( روي أن عثمان قد أتى بامرأة قد وَلَدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال تعالى: [ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ] وقال:           [ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدها. وسبب الغموض راجع إلى أن اللازم المتأخر الذي هو الحمل لستة أشهر ارتبط بملزومين ذكرا متفرقين في آيتين متباعدتين في الخطاب الشرعي." ( الخطاب الشرعي وطرق استثماره، د. إدريس حمادي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994، ص222/223.)

تحليل أمثلة لدلالة الإشارة:
   * ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚوَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ ...)    البقرة ﴿٢٣٣﴾
تدل الآية بإشارتها أي بطريق اللزوم العقلي على:
أولا: اختصاص الأب بالنفقة على ولده، وهو لازم عقلي عن اختصاصه بالنسب؛ إذ ما دام لا يشاركه أحد في النسب فلا يشاركه أحد في حكمه وأثره وهو الإنفاق، ولأن من له غنم النسب، فعليه غرم الإنفاق.
ثانيا: اختصاص الأب بالولاية على ولده الصغير، فهو لازم عقلي كذلك لاختصاصه بالنسب.

      *  ) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (   البقرة:234.
تدل هذه الآية بالإشارة على الحكم الآتي:
* يصح عقد الزواج بدون ذكر المهر أو تسميته أصلا، إذ لا يكون الطلاق إلا بعد زواج صحيح قائم.
وهذا مذهب الجمهور، جاء في الموسوعة الفقهية: والمهر ليس شرطاً في عقد الزواج ولا ركنا عند جمهور الفقهاء، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، فإذا تم العقد بدون ذكر مهر صح باتفاق الجمهور، قال الله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ـ فإباحة الطلاق قبل المسيس وقبل فرض صداق يدل على جواز عدم تسمية المهر في العقد. 
وبالرغم من عدم اشتراط المهر لصحة النكاح إلا أنه حق خالص للمرأة وواجب على الزوج، وليس لأحد من أهلها أن يسقطه، ولها حق المطالبة به ، وحق إسقاطه إذا طابت بذلك نفسها، قال تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا  } النساء:4.
قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة وهو مجمع عليه.
ملاحظة مهمة: كون المهر ركنا عند المالكية ليس معناه أنه جزء من ماهية العقد، لا يتم العقد إلا به، كما هو اصطلاح الركن عند الأصوليين، إنما معناه أنه لا يصح اشتراط إسقاطه أو لا يجوز للطرفين أن يتفقا على إسقاطه، فإذا اتفق الطرفان في العقد على إسقاط الصداق، فإنه يجب فسخ العقد إذا اطلع عليه قبل الدخول، فإذا دخل الزوج، فإن النكاح يثبت، ويتقرر للزوجة مهر مثلها من النساء.


 *﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ...      البقرة: 282
تدل هذه الآية بدلالة الإشارة على الأحكام الآتية:
1-  جواز التعامل لأجل معين، بالقرض الحسن أو بالبيع، أو غيرهما؛ إذ لو لم يكن جائزا شرعا لما أمر بتوثيقه.
2-  حجية الوثيقة؛ أي أن هذا التوثيق حجة على المَدين المُملي وعلى الدائن المُقِر.
3-  أهلية المُوثق؛ أي على الكاتب أن يكون على علم بأحكام التوثيق شرعا.
4-  على الأمة أن توفر التعليم المناسب الذي يخرج هؤلاء الموثقين.
       
ثالثا: دلالة الاقتضاء                                               
تعريف دلالة الاقتضاء:
                       
1-  التعريف اللغوي:
الاقتضاء لغة: الطلب والاستدعاء. (انظر:التعريفات،للجرجاني ص29)
2-  التعريف الاصطلاحي:
 أما في الاصطلاح فهي: " دلالة اللفظ على معنى مقدر لازم للمعنى المنطوق، متقدم عليه، مقصود للمتكلم، يتوقف على تقديره صدق الكلام ، أو صحته عقلا أو شرعا. "
                                                 (المناهج الأصولية، ص: 277 )

تحليل تعريف دلالة الاقتضاء:
( شرح ألفاظ التعريف وقيوده، بيان العناصر المكونة لدلالة الاقتضاء، بيان أقسامها)
صنفت هذه الدلالة مع ما يستفاد من لفظ الخطاب الشرعي نظرا لحاجة اللفظ إلى تقدير معنى لازم زائد كي يستقيم المعنى ويصح.
ووصف هذا اللازم في التعريف بالمتقدم، تمييزا له عن اللازم المتأخر في دلالة الإشارة.
وهو مقصود للمتكلم إذ لا يعقل أن يقتضي النص أمرا غير مراد للمتكلم به وهو الشارع.
وقولنا: يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلا أوشرعا؛ إذ لولا تقدير المعنى الزائد مقدما الذي هو المقتضى لم يفد النص شيئا ولم يوجب حكما، ثم إن زيادة المقتضى ليست زيادة تستند إلى التشهي والرأي، إنما اقتضتها ضرورة استقامة معنى الكلام، إما واقعا- وهو المعبر عنه في التعريف بصدق الكلام- وإما  عقلا، وإما شرعا، ولذلك سميت بالاقتضاء.
ويستفاد من التعريف كذلك أن هذه الدلالة تتركب من أربعة عناصر:
أولها) المقتضِي: وهو النص الشرعي.
ثانيها) المقتضَى: وهو المعنى الذي زيد إلى النص ليصدق معناه واقعا، أو يصح عقلا أو شرعا، فهو بذلك ثلاثة أنواع أو أقسام.
ثالثها) الاقتضاء: وهو دلالة النص على كون معناه لا يصح إلا بزيادة.
رابعها) الثابت بالمقتضَى: وهو الحكم الشرعي.
كما يستفاد من التعريف أن دلالة الاقتضاء ثلاثةُ أقسام:
1)              ما وجب تقديره ضرورةَ صدق الكلام      ( أي: صحته واستقامته واقعا ).
2)              ما وجب تقديره ضرورة صحة الكلام عقلا.
3)              ما وجب تقديره ضرورة صحة الكلام شرعا.

تحليل أمثلة لدلالة الاقتضاءحسب نوع المقتضى:
أولا: ما وجب تقديره ضرورةَ صدق الكلام (أي استقامته وصحته واقعا ).
فلولا تقديره لكان معنى الكلام مخالفا للواقع. ومن الأمثلة التطبيقية على هذا النوع:
  *            قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
فظاهر الحديث يدل على أن كلا من ذات الخطأ، والنسيان، والمكره عليه من الأمور، لا يقع في الأمة، وهذا المعنى الظاهر لا يطابق الواقع، فالأمة ليست معصومة مما ذكر كما هو مشاهد ومعلوم. فتعين أن يقدر مقدما معنى زائد عن المعنى الذي دل عليه النص بعبارته، ولكنه يقتضيه ويستلزمه، ليستقيم، ويطابق الواقع، وهو "الإثم" أو "الحكم"، مع العلم أن الإثم هو المؤاخذة الأخروية بالعقاب، وأما الحكم فأعم، إذ يشمل الحكم الأخروي والحكم الدنيوي.
 ومن الفروع الفقهية لهذه القاعدة: من أتلف شيئا خطأ، هل يعوضه أم لا؟
 والمسألة خلافية، فالذين قدروا المقتضى ب "الحكم" وهم الشافعية، قالوا: لا يضمن. والذين قدروا المقتضى ب "الإثم" وهم الحنفية قالوا:  يضمن.
       ثانيا: ما وجب تقديره ضرورة صحة الكلام عقلا.
ومن الأمثلة التطبيقية في الدرس الأصولي على هذا النوع:
  *            قوله تعالى: {فليدع ناديه} فالنادي الذي هو مكان الاجتماع لا يصح دعوته عقلا، فاستلزم هذا المعنى المنطوق، معنى مقدرا متقدما، يستقيم به المنطوق عقلا، وهو    " أهل" فيكون المعنى المراد "فليدع أهل ناديه" لا النادي ذاته.
       ثالثا: ما وجب تقديره ضرورة صحة الكلام شرعا.
ومن الأمثلة التطبيقية عليه في الدرس الأصولي:
  *            قوله تعالى : {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}  - النحل،115-
وقوله تعالى :  {حرمت عليكم أمهاتكم}     -النساء، 23-، فإن التحريم لما كان لا يتعلق بذوات المكلفين بل بأفعالهم، وجب تقدير "الأكل أو الانتفاع" في الآية الأولى، و"الزواج" في الآية الثانية، ويكون هذا التقدير ثابتا بدلالة الاقتضاء، وهو الحكم المراد للشارع.
رابعا: دلالة النص                                                  
تعريف دلالة النص:
هي: "دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه، وموافقته له نفيا وإثباتا، لاشتراكهما في معنى يدرك بمجرد معرفة اللغة؛ دون الحاجة إلى بحث واجتهاد." (تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، محمد أديب الصالح، 1/487)
وقد سميت هذه الدلالة بفحوى الخطاب، لأن الفحوى في اللغة هو المفهوم، يقال: فهمت من فحوى كلامه كذا، أي من مفهومه. وسميت بلحن الخطاب، لأن اللحن يطلق في اللغة على معان منها ما يفهم من اللفظ من غير تصريح به، كما في قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول).
والفحوى واللحن عند ابن الحاجب كما في "مختصر المنتهى" اسمان لمسمى واحد، وهو مفهوم الموافقة، فهما قسيمان لهذا المفهوم لا قسمان عنده. ويرى ابن السبكي وغيره أن المسكوت عنه إن كان أولى بالحكم من المنطوق سمي المفهوم (فحوى الخطاب) وإن كان مساويا له فهو (لحن الخطاب)؛ وعلى هذا فالفحوى واللحن قسمان لمفهوم الموافقة لا قسيمان له، وبه قال جمهور الأصوليين.
وهي تختلف عن العبارة والإشارة في كون الحكم الثابت بها لا يفهم من اللفظ بطريق مباشر كما في عبارة النص، أو غير مباشر كما في إشارته، وإنما يتوصل إليها بواسطة معناه أو علته اللغوية المفهومة من سياق النص وتركيبه. لذلك قال أبو حامد الغزالي في (شفاء الغليل):
"قول القائل: لا تقل له أف، ليس موضوعا للنهي عن الضرب لغة، إذ يجوز أن يقول الملك-المستولي على واحد من الأكابر- لغلامه: لا تقل له أف، ولا تنهره، ولا تقطع يده، ولا تفقأ عينه، واقتله، والمعني به النهي عن الاستخفاف به، مع الأمر بالإهلاك، فهو بوضع اللسان غير دال عليه."
فهو بوضع اللسان غير دال عليه، كما قال رحمه الله، لكنه مفهوم مما وضع اللفظ له، لذلك قال العطار في حاشيته على جمع الجوامع: إن الدلالة في المفهوم ليست وضعية، بل انتقالية. فإن الذهن ينتقل من فهم القليل إلى فهم الكثير بطريق التنبيه بأحدهما على الآخر.
وتختلف دلالة النص عن القياس، وإن اتحدت معه في الشكل والصورة، فيما يلي:
·       دلالة النص أول ما يتبادر إلى الذهن بمجرد معرفة اللغة، دون حاجة إلى تأمل واجتهاد. بخلاف القياس الذي يتوقف على الاجتهاد في إدراك العلة الشرعية في الأصل، وفي تعيين محلها في الفرع، من أجل إلحاق الفرع بأصله في الحكم.
·       في دلالة النص يكون المسكوت عنه (الفرع) جزءا من المنطوق به (الأصل)، أو العكس؛ نحو قولنا: لا تعط فلانا درهما، فإنه يدل على امتناع إعطاء ما زاد على الدرهم كالخمسة والعشرة والعشرين، والدرهم داخل فيها وجزء منها. بخلاف القياس فإن الفرع يكون مستقلا عن أصله، كقياس النبيذ على الخمر لاشتراكهما في علة الإسكار.

تحليل أمثلة لدلالة النص حسب أقسام أوأنواع هذه الدلالة
أقسام دلالة النص/مفهوم الموافقة:
تنقسم دلالة النص إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به لرجاحة المعنى أو العلة اللغوية فيه، ويسمى: فحوى الخطاب، وهو نوعان:
تنبيه بالأدنى على الأعلى، كما في قوله تعالى:
(ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما)، فسياق الآية وتركيبها دال على أن النهي عن إذاية الوالدين هو المعنى المراد للشارع سبحانه وتعالى، فيلحق به من باب أولى وأحرى الضرب والشتم، وما إلى ذلك، لأن علة الإذاية فيها أشد وأقوى.
وتنبيه بالأعلى على الأدنى، كما في قوله تعالى:
( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو في مقام أعلى لا يملك لنفسه جلب نفع أو دفع ضر، فمن باب أولى وأحرى أن لا يملك ذلك لأمته.
مثال تضمن التنبيهين معا:
(وَمِنْ اهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُودِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُودِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا)
أما القسم الثاني لدلالة النص فيسمى لحن الخطاب، ويكون فيه المسكوت عنه في الخطاب الشرعي بمنزلة سواء مع المنطوق به في العلة المفهومة بمجرد اللغة دون حاجة إلى استنباط أو اجتهاد. ومن أمثلته قوله تعالى:
( إن الذين ياكلون أموال اليتامى ظلما إنما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) النساء:10.
حيث دلت الآية على أن هبة مال اليتيم أو إحراقَه أو إلقاءَه في البحر هي مثل أكله ظلما، لتساويها في علة الإتلاف.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقضي القاضي وهو غضبان) فهو يدل على أن الجائع والحاقن والمتألم ألما مبَرِّحا مما لم يذكروا في الحديث حكمهم حكم الغاضب، لتساوي هذه الأمور كلها في علة التشويش على العقل المانعة من استيفاء العدل.


خامسا: مفهوم المخالفة                                            
تعريف مفهوم المخالفة
قال في تعريفه الإمام الآمدي من القدامى:
   " ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفا لمدلوله في محل النطق"        (الإحكام في أصول الأحكام: 3/67)
وقال في تعريفه الدكتور فتحي الدريني من المعاصرين:
 "دلالة المنطوق على ثبوت خلاف حكمه، المقيد بقيد، لغير المنطوق، عند انتفاء ذلك القيد المعتبر في تشريعه."
                                                   (المناهج الأصولية: ص: 324)

ثانيا: أنواع مفهوم المخالفة
1- مفهوم الحصر:
وهو: دلالة اللفظ على انتفاء الحكم عن غير ما حصر فيه، وثبوت نقيضه.
هذا لمن اعتبر من الأصوليين أدوات الحصر دالة على نقيض الحكم بالمفهوم المخالف. أما من ارتأى أنها تدل على نقيض الحكم بالوضع لا بالمفهوم المخالف؛ لأنها موضوعة لغة للإثبات والنفي معا، فلم يدرج مفهوم الحصر ضمن أنواع مفهوم المخالفة.
فافهم منزع كل فريق يتضح لك وجه الاختلاف في إدراجهم لأسلوب الحصر ضمن أنواع مفهوم المخالفة أو عدم إدراجه. مع العلم أن الجميع يقولون بحجيته.
واعلم أن "الاستثناء بعد النفي"، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور"، و"حصر المبتدأ في الخبر"، كقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"، داخلة في مفهوم الحصر، وإن أفردها بعض علماء الأصول بأقسام مستقلة لمفهوم المخالفة.
الأمثلة:
- قوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين "، يدل بمفهومه على أننا لا نعبد ولا نستعين بغير الله تعالى.
- قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات "، يدل بمفهومه على أن الأعمال لا تصح ولا تقبل بغير نية.
2- مفهوم الغاية:
هو: دلالة اللفظ المقيد بغاية على ثبوت نقيض حكمه في المسكوت عنه بعد الغاية. فحكم الغاية أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها.
الأمثلة:
- قوله تعالى: [ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره] فالآية تفيد أن تحريم المطلقة ثلاثا له غاية ينتهي عندها، وهي أن تتزوج زوجا غيره، فبانتهاء هذه الغاية يثبت الحل وينتهي الحظر. وقس على ذلك الأمثلة الآتية:
- " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " (الحجرات)
- " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (حديث شريف)
3- مفهوم الشرط:
هو: دلالة اللفظ الدال على حكم مقيد بشرط على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الشرط.
الأمثلة:
- قوله صلى الله عليه وسلم: " الواهب أحق بهبته، إذا لم يُثَب عنها " أي: إذا لم يأخذ عوضا عنها، يفهم منه أنه إن أخذ عوضا عن هبته فلا حق له فيها.
4- مفهوم الصفة:
هو: دلالة اللفظ المقيد بوصف على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت الذي انتفى عنه ذلك الوصف.
الأمثلة:
 - قوله تعالى: [ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ] يفهم منه أن "العدل" إن جاء بنبإ، يعمل بخبره دون حاجة إلى تبين.
- قوله صلى الله عليه وسلـــم: " في الغنم السائمة زكاة "،  يدل بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة.
- قوله صلى الله عليه وسلم: " من باع نخلا قد أبرت فتمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع " (المبتاع= الشاري)، يدل بمفهومـــــــــــــه على أنه إذا باعها قبل التأبيــــر فالتمر للمشتري.

5- مفهوم العدد:
هو: دلالة النص الذي قيد فيه الحكم بعدد مخصوص، على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه لانتفاء ذلك القيد.
الأمثلة:
- قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة "، فالآية تدل بمفهومها على أنه لا يحل الزيادة على مائة جلدة ولا يحل النقص منها.

  ثالثا: حجية مفهوم المخالفة
الجمهور على أن مفهوم المخالفة حجة، وخالف الحنفية، فرأوا أن مفهوم المخالفة في كلام الناس حجة معتبرة، ولكنه في النصوص الشرعية ليس بحجة؛"والواقع أن استدلالات الحنفية على فساد المعنى المستفاد عن طريق مفهوم المخالفة لكثير من النصوص التشريعية، تمهيدا لنقض حجيته، إنما منشؤه عدم توافر أحد الشروط التي وضعها علماء الأصول من الجمهور، لصحة العمل بأسلوب مفهوم المخالفة، وليس مرده الأسلوب ذاته.
ولا ريب أن تخلف شرط من شروط العمل بالمفهوم المخالف شيء، وعدم حجيته في ذاته شيء آخر" (المناهج الأصولية، ص355)
خصوصا وأن "تلك الضوابط مستخلصة عن طريق استقراء الأحكام التي ارتبطت بالقيود لغرض تشريعي (...) حتى إذا روعيت تلك الشروط، لم يبق للنافين أي مبرر لموقفهم السلبي، طالما أنه قد تحرر المنهج من كل ما يخل بمنطقية نتائجه، وإلا كان التقييد –بعد نفي جميع الاحتمالات الأخرى- عبثا، لا ينهض به معنى، ولا يستهدف غرضا، والعبث لا يُشرَع، بل لا يتصور في كلام العقلاء، فضلا عن تشريع الله ورسوله." (المناهج الأصولية، 356-357)


رابعا: شروط حجية مفهوم المخالفة
تتلخص شروط العمل بمفهوم المخالفة عند الجمهور في شرطين أساسين عامين، تدخل تحتهما جميع الشروط التفصيلية، وهما:
الشرط الأول: أن لا يعارض هذا المفهوم منطوق أو ما في حكم المنطوق كدلالة النص؛ لأن المنطوق أقوى في الدلالة على إرادة المشرع من المفهوم، وينطوي هذا الشرط الأول عل حالتين هما:
الحالة الأولى: أن لا يكون في الواقعة غير المنطوق بها التي انتفى عنها القيد، دليل شرعي خاص قد صرح بحكمها. بتعبير آخر: أن لا يعارض مفهومَ المخالفة نص صريح.
مثال تطبيقي: ( كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والانثى بالانثى )
فالمفهوم المخالف في الآية، ألا يقتل الحر بالعبد، ولا الرجل بالأنثى، لانتفاء الوصف المذكور في الآية.
وهذا المفهوم حجة يجب العمل به، لولا أن ورد من المشرع في ذلك نص آخر صريح ألغى ذلك المفهوم، وهو قوله تعالى: ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ).
الحالة الثانية: أن لا تكون الواقعة المسكوت عنها التي انتفى فيها القيد أولى بالحكم من المنطوق بها، أو مساوية لها. بتعبير آخر: أن لا يعارض مفهومَ المخالفة مفهومٌ موافق.
وفي هذه الحالة يقدم المفهوم الموافق لأنه أقوى دلالة من المفهوم المخالف، لاستناده على العلة اللغوية الظاهرة التي تجعله في حكم المنطوق.
مثال ذلك، قوله تعالى: ( إن الذين ياكلون أموال اليتامى ظلما، إنما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) النساء:10.
فالآية الكريمة تدل بمفهوم المخالفة على أن غير الأكل من أشكال إتلاف مال اليتيم مما لم يذكره النص لا يكون محرما، عملا بمفهوم القيد وهو الأكل.
غير أنه معارض بدلالة المفهوم الموافق التي تجعل كل أنواع الإتلاف داخلة في حكم التحريم لاشتراكها في علة الحكم المفهومة لغة، وإرادة المشرع مصانة عن العبث، قائمة على العدل، وإنما عبر عن تحريم إتلاف مال اليتيم ب "الأكل" خاصة؛ لأنه أكثر وقوعا.
الشرط الثاني: أن يتمحض القيد الذي خص بالذكر في النص لبيان تشريع الحكم، دون أي فائدة أخرى.
ومفاد هذا الشرط أن القول بمفهوم المخالفة يكون حجة إذا كان التقييد لمحض التشريع، بأن يكون الغرض من إيراد القيد هو قصر الحكم الشرعي على الحالة التي وجد فيها ذلك القيد، ونفيه عما سواها.
أما إذا سيق القيد لغرض آخر فلا مفهوم له حينئذ. ويكون ذلك في حالات من بينها:
الحالة الأولى: إذا خرج القيد مخرج الغالب؛ أي: تم إيراده في النص لتصوير أمر غلب وقوعه في المجتمع، نحو قوله تعالى: ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا )، أو قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا الربا أضعافا مضاعفة )
الحالة الثانية : إذا كان القيد جوابا عن سؤال، ورد فيه ذلك القيد بعينه، لتكون الإجابة مطابقة للسؤال الموجه، كقوله صلى الله عليه وسلم: " صلاة الليل مثنى مثنى " جوابا عن السائل الذي سأله عن صلاة الليل.
الحالة الثالثة: إذا كان مما ذكر محصورا للقياس عليه لا للمخالفة بينه وبين غيره، كقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور"، فإن الأنواع المذكورة لا مفهوم لها، بحيث يقاس عليها ما اشترك معها في معنى الضرر. ومثله ما جاء في حديث ابن عمر: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين" فإن الأصناف المذكورة في هذا الحديث لا مفهوم لها، إذ يقاس عليها ما في معناها، فيدخل في حكمها ما كان من أغلب قوت البلد.
الحالة الرابعة: إيراد القيد على سبيل تعظيم الحكم وتفخيم أمره، كما في الأحكام المذيلة بقوله تعالى ( حقا على المتقين )،( حقا على المحسنين )، فإن الغرض منها هو تعظيم الحكم الذي ذيلت به، لا قصر الحكم على المتقين أو المحسنين من المسلمين دون غيرهم.
الحالة الخامسة: إيراد القيد على سبيل الامتنان بالمقيد، كما في قوله تعالى: ( هو الذي سخر لكم البحر، لتأكلوا منه لحما طريا ) النحل/14.
الحالة السادسة: إيراد القيد للمدح، كقوله تعالى حكاية على لسان المؤمنين: ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان ) الحشر/10. فالوصف بالسبق بالإيمان للمدح، فلا يدل على نفي الاستغفار لغيرهم...
وهكذا كلما سيق القيد لفائدة غير بيان التشريع، فلا مجال حينئذ للقول بالمفهوم المخالف.

                                     لا تنسونا من خالص الدعاء































شارك:

هناك تعليق واحد:

  1. جميل جدا
    شكرا أستادي
    وفقك الله لما فيه خير

    ردحذف

ouhna.blogspot.com

موضوع مقترح

موجز السيرة الذاتية

ابحث في هذه المدونة

أرشيف المدونة الإلكترونية

Blog Archive